لماذا نصرخ في وجوه أبنائنا؟!
كم مرة تجمعت الغصة في حلقك وتدحرجت كرة النار في جوفك وطحنتك رحى الندم بعدما تكون قد صببت جام غضبك على طفلك أو مراهقك، وبعدما انقشعت عنك نوبة صراخك ورمتك إلى نفسك في جحيم لوم الذات وتأنيب الضمير؟
كم مرة عاهدت نفسك أن تضبط أعصابك، أن تحبس الصاعقة داخلك، أن تتحدث بهدوء وتحاذر خدش فضاء البراءة في طفلك أو تهشيم الحلم في وجدان مراهقك؟ ثم أفلت زمام أمرك منك فأطلقت حمم بركانك وربما استبد بك الطيش إلى الصفع والركل خارجا من جلدك دون أن تعترف لنفسك أن مبعث صراخك قد يكون قصاصا مما لم تستطع القصاص منه: صدام زوجي، أو مع مديرك في العمل، أو صديقك أو ظرف قاهر انقض ظهرك؟!
كلنا، أو معظمنا أيها السيدات والسادة تعترينا هذه الانفعالات الرعناء، ننفجر في وجوه أبنائنا ربما لأتفه الأسباب بينما هم يغمض عليهم فهم دواعي هذه الهستريا من أناس اعتادوا منهم ضمة دافئة أو كلمة صافية أو مسحة حانية، لا أن يدمدموا الكون بغتة على رؤوسهم الغضة!!
ما الذي يحدث فينا فيفتح في داخلنا شلال اللعنة لنصهر بها أكبادنا التي تمشي على الأرض؟ نتحول أجلافا غلاظا كأن لم نتعلم حرفا ولم تبزغ شمس الوعي في عقولنا، نخال آباءنا وأجدادنا اللذين ننعتهم بالأمية أكثر حكمة وبصيرة منا وأقدر على امتصاص شقاوات الأبناء وفهمها؟ يستوي في ذلك من كان فينا متخصصا في التربية وعلم النفس وشؤون الطفولة والمراهقة ومن كان مثقفا أو مفكرا أو معلما أو داعية، يخرج إلى الناس أو يقف في المحافل أو الصفوف والقاعات منظرا ملقيا الدروس عن سبل الرشاد في تهذيب وتربية الأولاد وحسن معاملة العباد!!
نحن معشر الكبار متورطون فيما نعانيه من ازدواجية المعايير واختلال النماذج فينا، نحن أجيال القنطرة نكاد لا ندري بالضبط ماذا نريد أن نكون أو كيف نكون؟ أفلتنا ثقافة آبائنا، أعرضنا عنها باعتبارنا متمدينين، نريد جعل أنفسنا (بالعافية!!) على غرار ما نقرأ ونسمع ونرى من ناس العالم المتقدم (!!) بينما يربض داخلنا (مرض الحنين) لماضٍ عشناه، تشربناه، تغلغل فينا جسدا ودما وروحا. فإذا الواحد منا يحمل في الداخل صده، يعيش سجالا، كرا وفرا، يناطح نفسه بنفسه بين أمسه ويومه، ما إن نتحمس لنوع من الصداقة، أو الهواية أو العمل أو الأفكار أو الذوق حتى نفقد الشهية لها وتبرد هممنا نحوها لنندفع في اتجاه آخر، في لهاث مضنِ ودوار مقلق، ممزقين بين المبادئ والشعارات والمفاهيم الجديدة وبين ما هو قابع في أغوار الوجدان منذ أزمنة بيوت الطين والشوارع المتربة وحليب الماعز والبقر وثقافة "السمت" والعيب و"الستر" وتربية "واخزياه"!!
هل يعني أننا اليوم لم نعد صادقين مع تقدميتنا ومع تحضرنا وأننا على حد تعبير نزار قباني: (لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية)؟! أظن أن مسألة الصدق تظل هنا نسبية وأن ما ينقصنا ليس الصدق وإنما الشجاعة في حسم اختيار الاتجاه ومن ثم الاستثمار فيه، وتلك ليست مهمتنا كأفراد بل هي مهمة سياسة التعليم التي ظلت أسيرة الترقيع والتلفيق للتوفيق فانطبق عليها مثل الغراب الذي أضاع مشيته ومشية الحمامة..
ولأننا رضعنا حليب هذه السياسة إلى جانب مؤثرات ما نرى ونسمع ونعايش تشبث بنا الصراع بين ما كنا وبين ما نود أن نكون وظل يصادم قناعاتنا بعضها ببعض ويزلزل أرضيتنا النفسية، يشقها خنادق وأخاديد تهب منها هذه النوبات من الصراخ في وجوه أولادنا وبسببها أيضا ينهشنا سعار الندم.. ولا سبيل إلى ردم هذه الخنادق والأخاديد إلا بأن نستبسل نحن الكبار في تربية أنفسنا كل على قدر طاقته وبطريقته، وتلك مهمة شاقة وكاريكاتورية في آن، غير أنه ما من ذلك بد، لكيلا نسحق الأمان النفسي في نفوس صغارنا ولكي نجنبهم مخاطر تسميم أرواحهم ببذور الانحراف والجريمة، مع أن حسم اتجاه السياسة التعليمية لصالح العصر والعلم يبقى في النهاية هو الضمانة ضد استمرار توارث نوبات الصراخ وسياط الندم!!