رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


"أرامكو" واحتفالية ثلاثة أرباع القرن

[email protected]

في الأسبوع الماضي احتفلت "أرامكو السعودية" بمرور ثلاثة أرباع القرن على بدء نشاطها في صناعة البترول في المملكة، وقد حظيت هذه الاحتفالية باهتمام رسمي وشعبي، نظراً لما تمثله هذه الشركة من أهمية على الصعيد الاقتصادي للمملكة وغيرها من دول العالم التي تعتمد على النفط المستورد في إدارة وتشغيل مصانعها وشؤون حياتها كافة. وقد تمثل الاهتمام الرسمي بهذه المناسبة بتشريف خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز هذه الاحتفالية، وكذا قادة مجلس التعاون الخليجي، حيث عقدوا قمتهم التشاورية على هامش الاحتفالية، إضافة إلى حضور ضيوف من مختلق أنحاء العالم خاصة من المهتمين والعاملين في صناعة البترول.
ولعله من المناسب ونحن نتحدث عن هذه المناسبة استحضار شيء من البدايات لهذه الشركة، ولصناعة البترول في بلادنا. لقد جاءت بدايات هذه الصناعة بعد ما يقرب من ربع قرن من توحيد المملكة، ولا يخفى على الجميع كيف كانت الأحوال الثقافية، الاقتصادية، التعليمية، والاجتماعية بشكل عام، إذ لم يكن التعليم قد أخذ مكانه وانتشر، كما لم تكن الحالة الثقافية العامة بالمستوى الذي يمكن من الانفتاح على الآخرين، ولو جلس أحدنا مع من عملوا في "أرامكو" في بداياتها وتحدث إليهم لسمع عجائب القصص، وأطرفها، خاصة أنه التحق بالعمل في الشركة الكثير من أبناء المملكة، ومن مناطق متعددة، والكثير منهم لم يكن يقرأ أو يكتب.
ذكر لي عمي صالح دخيل الطريري ـ أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية ـ وهو ممن عملوا في "أرامكو" في وقت مبكر أن ظروف العمل الإدارية والبيئية في ذلك الوقت صعبة، ومما ذكره أن المبتدئين من العمال، والموظفين كحالته يسكنون في خيام نصبتها الشركة لهم، وبتطور الموظف وظيفياً ينتقل سكنه من الخيام إلى المباني الجاهزة، وهذه نقلة نوعية، حيث الماء البارد والتكييف، أما عن الانضباط، ودقة العمل فيذكر أن الكثير من السعوديين الذين جاءوا من مناطق شتى من المملكة اكتسبوا خاصية التنظيم، ودقة المواعيد، كما كانت تلك البدايات فرصة لهم لتعلم اللغة الإنجليزية من خلال المدارس التي أنشأتها الشركة، ومن خلال الممارسة اليومية، حيث التعامل مع الأمريكان والذين يشكلون العصب الإداري والفني الرئيسي، ولعل من أهم ملامح البدايات كانت مواجهة التحديات بكل إصرار وعزيمة خاصة أن الكثير من السعوديين خرجوا من مدنهم وقراهم، ولم يسبق لهم التعامل مع الأجنبي بما يحمله ذلك من مضامين حضارية وثقافية يصعب قبولها، والتكيف معها وهذا ما أجبر البعض على ترك العمل في الشركة، والرجوع إلى مدينته وقريته، والبحث عن عمل بديل حتى إن واحداً ذكر لي أن أباه أرسل له خطاباً وهو يعمل في "أرامكو" واستدعاه مرغباً إياه في العمل الحكومي بدلاً من العمل مع الأجانب والأغراب، وبالفعل أخذ بنصيحة والده والتحق بالعمل الحكومي وجلس على التخوت "المكاتب" التي أغراه والده بها، حيث ذكر والده في رسالته "ربعك جالسين على التخوت وأنت مقابل الأجانب". هذه المناسبة مع ما تذكرنا به من صعوبات، وأوضاع متردية من الناحية الاقتصادية، والاجتماعية، إلا أنها تشكل فرصة للمقارنة بين تلك الفترة والوقت الحالي الذي نعيشه، الذي أسهمت "أرامكو" في تشكيله، ووضع شيء من لبناته وأسسه.
بدخول "أرامكو" المملكة دخلت بلادنا إلى صناعة البترول، ما مكنها مع الوقت أن تكون من أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم حتى إن الكثير من الدول تعتمد اعتماداً رئيسياً على إنتاج المملكة، وبهذه المكانة الاقتصادية احتلت المملكة مكانها الطبيعي على صعيد السياسة الدولية، خاصة في مجال صناعة النفط إنتاجاً وأسعاراً، إذ في كثير من المناسبات حافظت المملكة على التوازن بين مصالح المنتجين والمستهلكين، وذلك من خلال دورها في منظمة أوبك، التي سعت المملكة مع غيرها من الدول إلى تأسيسها.
بانخراط العديد من السعوديين في العمل في الشركة تأسست لبنة إدارية، فنية، واقتصادية، حيث تخرج من مدرسة "أرامكو" الكثير من الكفاءات التي أخذت على عاتقها تأسيس شركات أصبحت علامة بارزة في الوطن في مجال البناء والاستيراد والتبادل التجاري مع بلدان أخرى.
إن برامج التعليم والتدريب التي عقدتها "أرامكو" لموظفيها تمثل إعادة تأهيل لهم، وإكسابهم مهارات متعددة سواء المهارات العملية أو مهارات التعامل، أو تنظيم الحياة الشخصية، ما انعكس بشكل واضح على النجاح الذي حققه الكثير من المنتسبين لهذه الشركة.
 أتذكر عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية شاهدت المعرض المتنقل الذي أقامته "أرامكو" على شكل قافلة جابت مناطق المملكة وقد كانت تلك تجربة فريدة لنا لنتعرف على صناعة النفط في بلادنا، ولا أزال أتذكر نماذج الأجهزة لاستخراج النفط، وأتذكر الفيلم الذي عرض علينا الذي يتناول مراحل استخراج النفط، وغير ذلك مما بقي في الذاكرة حول ذلك المعرض.
"أرامكو" مدرسة إدارية ناجحة ولعل مدينة الخبر وتخطيط شوارعها، وتنظيمها يشهد لها بذلك، كما أن الأحياء التي أشرفت عليها بغرض منحها لموظفيها تشكل مثالا جيدا، حيث توفر الخدمات من ماء، كهرباء، تليفون، مدارس، ومساجد قبل البدء في البناء وليت بلدياتنا وأمانات مدننا تستفيد من الفكر التخطيطي والإداري لهذه الشركة العملاقة. من المآثر التي تركتها "أرامكو" المدارس التي أقامتها في المنطقة الشرقية، والذين درسوا في هذه المدارس يؤكدون جودة المباني، وحسن التصميم حتى إن بعضها لا يزال قائماً حتى الآن.
إن مشوار 75 عاماُ من عمر "أرامكو" يعني تجربة ثرية في إنتاج النفط وتسويقه، بل في التحولات التي تمر بها المجتمعات سواء كانت ثقافية، إدارية، اقتصادية، واجتماعية وتستحق الدراسة والتمعن فيها من جميع جوانبها.
وحسبنا أن تواصل "أرامكو" دورها في التنمية الشاملة، نظراً للنجاح الذي حققته، وما إسناد الإشراف على جامعة الملك عبد الله للتقنية إلا خير شاهد على الثقة التي تحظى بها هذه الشركة، والأمل في أن تتحرك "أرامكو" من مكتشف ومنتج ومصدر للنفط إلى مصنع لكل ما يشتق منه بدلاً من أن نعيد استيراد هذه المشتقات من الآخرين الذين نصدر لهم المادة الخام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي