أزمة الرهن العقاري لم تبلغ نهايتها.. مشهد تراجيدي في أسواق المال
في منحى أقل ما يوصف به أنه مشهد تراجيدي لا يدعو للتفاؤل، اتخذ مسار الاقتصاد الأمريكي تراجعاً واضحاً هذا الأسبوع. فقد أثرت البيانات المتعلقة بالديون المعدومة لكبار البنوك الاستثمارية كـ "سيتي بانك" و"ميريل لنش" على الصورة المتعلقة بالأسواق الأمريكية وعلى الثقة بالاقتصاد، مما أدى إلى تدهور حاد في جميع المؤشرات خصوصاً مؤشر داو جونز الذي تراجع بمعدل لا يقل عن 600 نقطة خلال هذا الأسبوع. وفي يوم واحد هو يوم الأربعاء الماضي انخفض "داوجونز" بمعدل 306.95 نقطة، وذلك على أثر إعلان البنك الاستثماري ميريل لنش تراكم خسائر نتيجة الديون المعدومة خلال عام 2007 تجاوزت تسعة مليارات دولار، ولتبلغ قيمة الديون المتراكمة التي قام البنك بإعدامها ما يقدر بـ 22.4 مليار دولار. في المقابل بلغت قيمة الديون المعدومة التي قام الـ "سيتي بانك" بإعدامها والمتعلقة بالسندات المدعومة بقروض الرهن العقاري ما قيمته 19 مليار دولار، يتلوها في ذلك بنك "يو بي إس" بديون معدومة قيمتها تجاوزت 14 مليار دولار. وقائمة البنوك التي قامت بإعدام ديون تتعلق بسندات الرهن العقاري طويلة وتتجاوز 18 بنكاً استثمارياً بعضها من خارج الولايات المتحدة، وأقل قيمة ديون معدومة في هذه القائمة تتجاوز مليار دولار. وتضم هذه القائمة التي نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال" أسماءً لمؤسسات مالية كبرى كـ HBSC و"دويتشه بانك" و"كريدت سويس" و"واكوفيا" وبنك أوف أمريكا وغيرها من لكبريات بيوت الاستثمار العالمية وتتجاوز قيمة الديون المعدومة لهذه البنوك مجتمعة 107 مليارات دولار.
المشهد كما ذكرت تراجيدي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، مما دعا رئيس الاحتياطي الفيدرالي المتحفظ عادة إلى التأكيد على تباطؤ النمو الاقتصادي على الرغم من أنه لم يؤكد وقوع الاقتصاد في شرك الركود الاقتصادي كما أنه لم ينف ذلك. وفي الوقت نفسه أكد بيرنانكي، في جلسة الاجتماع أمام لجنة الميزانية في الكونجرس، أن هناك حاجة ماسة إلى الدعم المالي من خلال ميزانية الحكومة. ويختلف الديمقراطيون مع الجمهوريين في طريقة الدعم التي ستقدم، ففي حين يرى الديمقراطيون أن تركز عملية الدعم المالي على دعم استهلاك الطبقة ذات الدخول المنخفضة، يرى الجمهوريون أن دعم قطاع الأعمال من خلال تقديم تخفيضات في الضرائب هو الذي سيؤدي إلى تحفيز النمو الاقتصادي. وقد أعلن جورج بوش يوم الجمعة الماضي عن تقديم طلب إلى الكونجرس، الذي بدا مقتنعاً بأن عملية الدعم المالي الحكومي ضرورية حالياً، بتخفيضات في الضرائب وحوافز أخرى قدرت قيمتها بـ 145 مليار دولار. وهذه القيمة تتجاوز القيمة التي قدرها بيرنانكي خلال جلسة الاستماع أمام الكونجرس عندما طلب منه تقدير قيمة الدعم الضروري لتحفيز الاقتصاد فأشار إلى أن 100 مليار دولار سوف تكون كافية. ومع ذلك لم يتأثر مؤشر داو جونز إيجاباً بعد إعلان النبأ وأغلق اليوم الأخير من الأسبوع الماضي على خسائر بلغت 60 نقطة.
وكما هو معروف وكما سبق أن أشرت في التقارير السابقة أن مشكلة الرهن العقاري كانت السبب الرئيسي وراء المشكلات الحالية. ويبدو أنها – أي مشكلة الرهن العقاري – لم تبلغ بعد نهايتها، حيث أشار مؤشر المنازل الجديدة إلى انخفاض لأقل معدل خلال 16 عاماً. إذ تراجع عدد المنازل الجديدة خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي إلى 1.006 مليون منزل، وهو المعدل الأقل منذ عام 1991. إضافة إلى ذلك انخفض مؤشر المؤشرات القيادية خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي بمعدل 0.1 في المائة، وعلى الرغم من هذا الانخفاض إلا أنه أقل من معدل الانخفاض الذي بلغه خلال تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي الذي بلغ 0.3 في المائة. كذلك ارتفع مؤشر ثقة المستهلك على عكس التوقعات، إذ قدرت التوقعات قراءة المؤشر بـ 74.7 نقطة، في حين بلغت القراءة الفعلية معدل 80.5 نقطة. ولعب تراجع سعر النفط دوراً كبيراً في زيادة ثقة المستهلكين تجاه تحسن الوضع الاقتصادي وتحسن قدرتهم الشرائية. إضافة إلى ذلك فإن الشتاء الدافئ في الولايات المتحدة أدى إلى تخفيف الكثير من آثار هذا الارتفاع على فواتير التدفئة التي ترتفع عادة في هذا الوقت من العام.
من ناحية أخرى وعلى عكس التوقعات انخفض المؤشر العام لأسعار المنتجين الذي صدر خلال هذا الأسبوع وذلك بمعدل 0.1 في المائة في حين قدرت التوقعات ارتفاعه بمعدل 0.2 في المائة. وقد يكون لانخفاض أسعار الطاقة كما أشرت دور في هذا الانخفاض، ويمكن تأكيد ذلك بالنظر إلى المؤشر نفسه ولكن باستثناء أسعار الطاقة والغذاء التي ارتفعت بمعدل يتفق مع التوقعات البالغة 0.2 في المائة. أما من حيث مبيعات التجزئة لشهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي فقد انخفضت على عكس التوقعات أيضاً بمعدل 0.4 في المائة، في حين قدرت توقعات المحللين أنها لن تتغير عن تشرين الثاني (نوفمبر). ويعكس ذلك بشكل واضح التأثير الكبير لتراجع الاقتصاد على القدرة الاستهلاكية للمستهلكين التي ترتفع عادة في هذا الشهر بالذات من كل عام. إلى ذلك أشار استبيان ولاية نيويورك الصناعي الذي يعده "الاحتياطي الفيدرالي" لمدينة نيويورك ويعد مؤشراً لأداء الاقتصاد إلى انخفاضه لشهر كانون الثاني (يناير) من هذا العام عن معدله لشهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، وليعكس تشاؤما بشأن الوضع الاقتصادي خلال العام من قبل المستثمرين في قطاع الصناعة، حيث بلغت قيمة المؤشر 9.03 نقطة خلال شهر كانون الثاني (يناير) منخفضاً من 9.80 لشهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وفي نتيجة تتفق تقريباً مع قراءة هذا المؤشر للوضع العام للقطاع الصناعي، أظهر مؤشر فيلادلفيا الصناعي الذي يعده بنك الاحتياطي لمدينة فيلادلفيا إلى أن المؤشر انخفض بعد المراجعة بشكل حاد خلال كانون الأول (ديسمبر) الماضي ليبلغ انخفاضه 20.9 نقطة وهي أقل قراءة له منذ تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2001. أما من حيث الإنتاج الصناعي ففي حين توقع المحللون انخفاضه لشهر كانون الأول (ديسمبر) بمعدل 0.2 في المائة، أظهرت البيانات عدم تغيره عن معدله في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. إضافة إلى ذلك فقد تجاوزت نسبة الطاقة المستغلة توقعات المحللين لتبلغ 81.4 في المائة.
كل هذه البيانات تؤكد حسب رأينا أن الاقتصاد الأمريكي دخل فعلاً مرحلة الركود الاقتصادي. مما سيؤدي إلى جذب بقية الاقتصادات العالمية معه في أتون هذا الركود. حيث إن الآثار السلبية لأزمة الرهن العقاري التي كان المسؤولون في "الاحتياطي الفيدرالي" يؤكدون على احتوائها في قطاع الإسكان قد امتدت إلى جميع القطاعات الأخرى في الاقتصاد تقريباً وبدرجات متفاوتة. وإذا كان هناك من ميزة لوسائل التمويل المبتكرة فهي أنها أخرت إسقاطات هذه الأزمة على قطاعات الاقتصاد الأخرى، الأمر الذي لم يستغله مقررو السياسة الاقتصادية الأمريكية لترميم ما يمكن ترميمه خلال ذلك الوقت.