الإعلام ونبش قبور الذاكرة السوداء
الإنسان في مسيرة حياته يخزن في ذاكرته الكثير من الخبرات والمواقف التي يمر بها سواء كانت هذه الخبرات إيجابية أو سلبية سارة أو غير سارة. والتاريخ وما يدونه حول حياة الشعوب، والمجتمعات هو ذاكرة الزمن التي تحتفظ بالأحداث، والخبرات خاصة الجسام، وتلك التي تخص العلاقات بين الشعوب، والمجتمعات.
تأملت في العلاقات بين الشعوب، والمجتمعات فألفيت أنها مثل العلاقة بين الزوجين تمر بمراحل حميمية، وتمر بحالات من التوتر في بعض الأحيان لكن في نهاية المطاف هناك ما يؤثر في هذه العلاقة من أن تستمر، أو تنفصم وهو الكيفية التي يدرك بها كل طرف الموقف الذي يمران به، وتحليله لهذا الموقف، ومعرفة الآثار المحتملة من الإقدام على تصرف قد يزيد العلاقة توتراً أو يحدث الهدوء، والطمأنينة، ومن ثم عودة العلاقات إلى مجاريها الطبيعية. في موقف أو ظرف من الظروف التي تمر بين طرفين يستدعي كل طرف شريط الذكريات الممثل للعلاقة بين الطرفين لكن في بعض الأحيان قد يبرز حدث من الأحداث، أو خبرة من الخبرات بحيث تكون هي الخبرة الأكثر إلحاحا وحضوراً لدى هذا الطرف، أو ذاك بحيث تؤثر هذه الخبرة في كيفية تعامله مع الطرف الآخر، فإن كانت الخبرة جميلة أثرت وأصبحت هي الموجه لسلوك هذا الفرد، وإن كانت هذه الخبرة سيئة كان الأثر السلبي في العلاقة. وما يحدث بين المجتمعات مثله مثل ما يحدث بين فردين سواءً كانا زوجين، أو صديقين، أو أي شكل من أشكال العلاقة، حيث تاريخ العلاقة بين المجتمعات مليء بالخبرات الإيجابية، والخبرات السلبية، وفي بعض الظروف يكون التركيز على الخبرات الإيجابية، لكن في ظروف أخرى تبرز الخبرات السلبية، ويكون التركيز عليها هو الأكثر وضوحاً بحيث تكون هذه الخبرة هي الموجه لكافة الأنشطة والفعاليات ونوع العلاقات الممكن حدوثها.
تساءلت بشأن ما إذا كان الإنسان بطبعه يميل لاختيار، واسترجاع نوع من الخبرات دون غيرها، أم أن الظروف، والمستجدات المحيطة هي التي لها الأثر الأبرز في التركيز على خبرة سارة، أو خبرة غير سارة. الظروف السياسية، والمصالح الذاتية أو الضيقة هي التي يكون لها الأثر في اختيار نوع الخبرة أو الموقف الذي يركز عليه سواء في الحديث، أو المناقشة، أو الكتابة. كما أن قوة الخبرة وما قد تكون أحدثته من أثر في الفرد نفسه هي ما يكون لها الدور الأقوى. في العصر الحديث ومع وجود السلطة الرابعة بتقنياتها كافة، ونماذجها من مرئي ومسموع ومقروء نجد أن العلاقات بين الدول، والمجتمعات هي أحد أهم المواضيع التي تركز عليها وسائل الإعلام وتستضيف لهذا الأمر المحللين والكتاب، والقراء للإدلاء بآرائهم وأفكارهم بشأن هذه العلاقات، لكن ما يلاحظ بشكل بارز هو اختيار بعض المحللين، والكتاب لنقطة، والتركيز عليها، وجعلها قطب الرحى، وكأن العلاقة بين البلدين، أو المجتمعين عبر تاريخهما الطويل مختزلة، أو مقتصرة على هذه الخبرة أو ذلك الحدث حتى أن هذا النوع من الكتاب الذي يصدق عليه تعبير كتاب التحكم من بعد يكتبون في كثير من الأحيان دون قناعاتهم، أو دون وعي، وإدراك لخطورة ما يكتبون، إن تضخيم بعض الأحداث وإعطاءها حجما أكبر من حجمها الطبيعي، وتصوير هذا الحدث باعتباره الأساس في تشكيل نوع العلاقة حتى ولو أن الحدث مرت عليه مئات السنين إلا أنه يسكن في عقولهم ويبقى حاضراً في ذاكرة هؤلاء الأفراد، أو الكتاب، ويكون ذلك سمة بارزة فيهم، وهم بما يكتبون أو يتحدثون عنه يشكلون الذاكرة الاجتماعية من خلال التفتيش في دفاتر التاريخ واختيار حدث بصورة انتقائية والتركيز عليه. لو تتبع الواحد منا ما يتصدى له كاتب، ويكرر الكتابة فيه يجد أن الانتقائية، واختيار النقاط المظلمة في تاريخ العلاقة بين مكونات الأمة، أو المجتمع هي السمة البارزة. ماذا لو أن الكاتب أو المتحدث تحدث أو كتب عن النقاط المضيئة في العلاقة هل تتغير النتيجة أم لا؟ ما من شك أن اختيار الخبرات السارة والكتابة حولها سيكون أثره الإيجابي واضحاً، حيث يؤثر في الاتجاهات التي يحملها أبناء مجتمع نحو مجتمع آخر، أو مكون اجتماعي نحو مكون آخر، ومن ثم سلوك وتصرف كل طرف مع الطرف الآخر. لو بحثنا في تاريخ العلاقة بين المجتمعات والشعوب لوجدنا أنه مليء بالإيجابيات، حيث التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية، بل وعلاقات النسب، والمصاهرة، إضافة إلى الآثار الثقافية المتبادلة، إذ قد نجد مفردات من هذه اللغة تستخدم في ذلك المجتمع، والعكس صحيح حيث مفردات من المجتمع الآخر تستخدم في هذا المجتمع، كما نجد الترجمات، والاهتمام بالأدب، والفنون، وجميع المعارف في مجتمع يتم الاستفادة منها في المجتمع الآخر مما يعني أن العناصر الإيجابية في العلاقات أقوى من العناصر السلبية. لو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر العلاقة بين العالم العربي والغرب لوجدنا أن تاريخ العلاقة مليء بالإيجابيات، كما توجد مواقف تصنف بأنها سلبية، من الإيجابيات أن العرب بحكمهم لإسبانيا، وإقامة دولة الأندلس خلال ثمانية قرون أثروا في واقع أوروبا في تلك الفترة، ونقلوا المعرفة، والفلسفة، والفكر، وتقنيات الزراعة، والري، والبناء، وعلم الرياضيات، والفيزياء، وغيرها من المعارف.
ولعل أبرز مثل على هذا الأرقام العربية، والصفر الذي يعتمد عليه في كثير من المجالات، إضافة إلى الأطروحات الفلسفية والفكرية للعرب والمسلمين، ومع اعتراف البعض من الغربيين بفضل العرب إلا أن ذاكرة البعض منهم والمؤثرة خاصة الإعلام يتجاهل هذا الفضل، ولا يستعيد من ذاكرته إلا النقاط السوداء ويركز عليها، ففي العصر الحديث القريب جعلوا من أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) أساساً للعلاقة بين الغرب، والعرب، والمسلمين، وعمموا هذا الحدث، وجعلوه أساساً، ومحوراً للعلاقة المتوترة وتناسوا ما قدمه ويقدمه العالم العربي من مادة أساسية أسهمت بشكل واضح في رقي، وتطور الغرب المادي ألا وهو البترول الذي بفضله شيدت الطرق واشتغلت المصانع، وتحققت الكثير من المكاسب المادية والحياتية للمجتمعات الغربية. كما أن بعض الكتاب العرب يختارون وبصورة انتقائية حدثاً أثر في العلاقة البينية في الأمة العربية والإسلامية ويكثرون من الكتابة فيه وتكرار الحديث حوله وكأن الأمة لم تمر إلا بهذا الحدث. إن هؤلاء الكتاب والإعلاميين مثلهم مثل من ينبش في القبور ليبحث عن أدلة في مسألة معاصرة وهم بهذا الفعل لا يعرفون إلا الذاكرة السوداء ويستمرون في التنقيب والبحث فيها.