الترجيح الفقهي
حينما تنظر مسألة فقهية في كتب المذاهب، ولا سيما الكتب التي نسج أصحابها على الفقه المقارن بذكر الأقوال والمذاهب المشهورة، فإن الفقيه يصير إلى الترجيح، وإذا نظرت إلى هذا المعنى (الترجيح)، فإنه جملة من القصد العلمي يصار إليه بوجه من التمييز للقول المختار، حتى يصار إليه في العمل والفتوى، وقد ذكر الفقهاء ونظار الأصوليين جملة من أوجه الترجيح أوصلها بعضهم إلى خمسين معنى، وهذه وإن كان بعضها في الترجيح بين الأدلة والدلالات، فإن مقاما منها يقع باعتبار النتائج في ترجيح اجتهاد على آخر في الفروع الفقهية.
وثمة مقامان في معنى الترجيح أحدهما: أنه ترتيب علمي له قواعده ومنهجه، وثمة فرق بين الترجيح باعتبار جهاته الإضافية كترجيح ضبط المذهب، فهذا ليس عن مقام الاستدلال بل عن مقام تسمية أقوال الأئمة، والترجيح عند الإطلاق هو ترجيح القول من حيث الاستدلال، وفي الجملة فيجب أن يصار إلى منهج علمي يتسم بالاطراد والضبط الفقهي.
والثاني: أن الترجيح الفقهي يعني درجة من الظن الراجح في الاختيار في الجملة، وهذا يعني أن الترجيح لا يعني علما بالقطع أو إبطالا للأقوال المعتبرة في الاجتهاد، وهذا يوجب على صاحب العلم والفتوى أن يعتدل في ترجيحه، ولاسيما في المسائل التي اشتهر فيها النزاع، ومقتضى السياسة الشرعية التوسعة فيها، وإلا فثمة مسائل قد يصار فيها إلى قول راجح بالأدلة ولا يحدث العامة بكل قول سياسة، وهذا يقرره الفقهاء الراسخون حتى لا يقع عنه تضييق في محل السعة، أو إطلاق في محل الضبط للمصالح العامة، وتحت هذا المعنى جملة علي، رضي الله عنه، التي رواها البخاري تعليقا: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)
وفي الجملة فالترجيح صفة من الحكمة وليس وجها لإغلاق الاجتهاد أو التعصب، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، والله الهادي.