النفط بين السياسة الأمريكية وواقع السوق
جعلت الولايات المتحدة من النفط أداة سياسية مهمة للدول المنتجة والمصدرة للنفط منذ تبنيها سياسات متحفظة جداً تجاه استهلاك النفط بدءاً من بناء مخزون استراتيجي، وانتهاءً بحثها على الاستهلاك الفعال لوقود السيارات وزيت التدفئة من قبل مصنعي السيارات وتقنية التدفئة الأمريكية، وما تخلل ذلك من جهدها الحثيث على إيجاد بدائل للنفط في استخدامات الطاقة، لتصل إلى استخدام الذرة في الوقود الأحيائي، مما كان سبباً مهماً في ارتفاع أسعار الحبوب. وتعاظمت قوة النفط عبر الزمن نتيجة النمو المتزايد على الطلب، ليس من الدول الصناعية فحسب، بل والدول الناشئة، مع فشل الدول العظمى في استخدام مخزونها الاستراتيجي، وإيجاد البديل المناسب، وتبنيها سياسات خاطئة في استخدام الوقود الحيوي.
لذلك، فإن أوبك والدول المنتجة للنفط من خارجها لم تعدا مسؤولتين عن أزمة أسعار النفط. بل إن ارتفاع أسعار النفط إلى مستوياتها الحالية هو مسؤولية الدول الصناعية بالدرجة الأولى. فهي تفتقد للمعايير والمؤشرات التي تنبئ باستخدام المخزون النفطي الاستراتيجي وتجعله أمراً ملحاً، ناهيك عن أنها أخفقت في إيجاد بدائل للطاقة بفاعلية وكفاءة النفط، لترتكب خطأ فاحشاً في استخدامها الحبوب كوقود حيوي على حساب غذاء الإنسان. إن هذه العوامل مجتمعة كفيلة برفع أسعار النفط إلى مستويات عالية. وإذا أضيفت إليها عوامل أخرى مثل صناديق التحوط والمضاربات الكبيرة على أسعار النفط، وعدم استقرار بعض الدول المنتجة للنفط مثل العراق ونيجيريا وفنزويلا، وزيادة الطلب من الهند والصين وبقية الدول الناشئة، فليس من المستغرب أن تصل أسعار النفط إلى مستوياتها الحالية. فالمملكة التي أعلنت على لسان وزير بترولها نيتها رفع إنتاجها بـ 300 ألف طن في حزيران (يونيو) المقبل لتعويض انخفاض إنتاج نيجيريا ووجود نحو 50 عميلاً طلبوا ذلك، فشلت في لجم ارتفاع أسعار النفط يوم الجمعة الماضي حيث تجاوز سعر برميل النفط 127 دولاراً. ويعطي ذلك دلالة على أن مشكلة النفط ليست مشكلة عرض، بقدر ما العوامل التي ذكرت في هذا المقال مجتمعة، حيث إن مسألة العرض تصبح عاملاً ثانوياً في ارتفاع أسعار النفط.
ويمكن القول إن هذه العوامل التي أدت إلى ارتفاع النفط تبرئ النفط من أنه أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم العالمية. فمن الواضح أن ارتفاع أسعار النفط كان نتيجة النمو الاقتصادي العالمي القوي، الذي بدوره زاد من حدة الطلب على النفط وبالتالي ارتفاع أسعاره. ولو لم تكن أسعار النفط موائمة للنمو الاقتصادي ولم تؤثر فيه لاستمرت الهجمات السياسية والإعلامية متتالية على "أوبك". إذ نلاحظ انخفاض حدة الهجوم على "أوبك" كمسؤولة عن ارتفاع أسعار النفط عند مقارنتها بالسنوات الفائتة. بل إن وزراء "أوبك"، كانوا سباقين لأي هجوم محتمل على المنظمة، في إبداء رغبتهم المتكررة برؤية أسعار النفط في مستويات منخفضة تقارب 60 دولاراً للبرميل. ناهيك عن أن دول "أوبك" ضخت من النفط ما في وسعها حيث تنتج بالطاقة القصوى. وهي في طريقها إلى ضخ استثمارات ضخمة لرفع مستويات الإنتاج في ظل ارتفاع أسعار النفط الحالي المبررة اقتصادياً، ليس فقط لدول "أوبك" التي تتميز بانخفاض التكلفة، بل ولتلك الدول عالية التكلفة.
من هنا، فإن سوق النفط لم تعد بحاجة إلى ادعاء وجود ضغوط سياسية من هنا أو هناك. فعوامل السوق النفطية تبرر الاستثمارات كبيرة الحجم، وتبرر زيادة الإنتاج عطفاً على مستويات المخزونات النفطية الضخمة. بل إن ارتفاع أسعار النفط الحالية يبرر رفع الإنتاج الحالي بكامل طاقته، ليس من قبل المملكة فحسب، بل وجميع الدول المنتجة للنفط، بعيداً عن أية مؤثرات خارجية.