كتاب جديد يكشف زيف شعارات الليبرالية الجديدة لنهب الدول الفقيرة
كان ونستون تشرشل, بالغ الصراحة عندما أعلن عند تأسيس عصبة الأمم المتحدة "دعونا نؤسس منظمة ترعى حقوق الأغنياء في العالم", ولا تختلف سياسات الليبرالية الجديدة اليوم في جوهرها عن خطاب تشرشل, بل تبدو أكثر قسوة وأشد خطورة, خاصة أنها في مسيرة نهبها للدول الفقيرة, ترفع شعارات براقة مثل مساعدة دول الجنوب ومكافحة الفقر والإيدز ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يتخذ مسار الاقتصاد الرأسمالي العالمي, في بداية القرن الواحد والعشرين, أكثر فأكثر منحى مضادا للبيئة ومستويات الحياة الكريمة للدول الفقيرة, فالنكتة التي كانت تقول إن الشركات سوف تقوم بتعبئة الهواء الذي نتنفسه في قوارير ثم تبيعها لنا, لم تعد اليوم تضحك أحدا.. ومجموعة الدول الثماني التي تمثل الشكل الأكثر اكتمالا ووضوحا, لعولمة الرأسمال وحكم الشركات في العالم, تقوم اليوم بفرض كل ما يخدم استنزاف ثروات العالم الثالث إلى آخر قطرة, دون الالتفات إلى خطورة الكوارث البيئية والإنسانية التي تنجم عن سياساتها وتهدد مستقبل البشرية جمعاء, ويبدو الهجوم الذي تقوم به الشركات العملاقة على موارد الدول الفقيرة اليوم, أكثر اتساقا وتنظيما من أي وقت مضى, فعولمة رأس المال التي بدأت دورتها الأولى في القرن التاسع عشر وانتهت بصراع مدمر على المستعمرات والثروة في الحرب العالمية الأولى, عادت للظهور ثانية في السبعينيات وتميزت بسيطرة الدولة التي وضعت أنظمة وعقبات صارمة في التجارة وتدفق الرساميل, الأمر الذي كان يقيد إلى حد كبير حرية الشركات في السيطرة على الثروات والأسواق الخارجية, أما الدورة الثالثة التي نعيشها اليوم, فهي مرحلة تحطيم الحواجز والعقبات التي تقف في وجه المضاربات المالية والتجارية وإزالة أية لوائح تنظيمية تقف في طريق زيادة أرباح الشركات,بما فيها قوانين السلامة في الأدوية والكيمياويات والمعايير البيئية وحقوق الإنسان, لقد انطلقت الوحوش المتعطشة إلى الثروة دون أن يستطيع أحد الوقوف في طريقها, وصارت قوية إلى الدرجة التي تجعلها قادرة على زج حكوماتها في حروب لاحتلال الدول الضعيفة لمجرد أنها تبدي ميلا إلى إدارة ثرواتها بنفسها.
ومنذ ترشيح الرئيس بوش للرئاسة عام 2000, دخلت سيطرة الشركات مرحلة جديدة وذلك بإشراكها مباشرة في عملية اتخاذ القرارات السياسية والتنظيمية, عبر تعيين كبار موظفيها في مراكز حكومية حساسة, ولعل اختيار الرئيس التنفيذي لشركة هاليبيرتون, ديك تشيني, نائبا للرئيس أوضح مثال على هذا التوجه, وقد عين بوش مائة موظف كبير كانوا يعملون سابقا ضمن جماعات الضغط الخاصة بالشركات الصناعية, وأصبحوا الآن مسؤولين عن إصدار القرارات والقوانين المتعلقة بترخيص الدواء وسياسات الغذاء والبيئة وقضايا مهمة عديدة أخرى.
وليست أوروبا ببعيدة عما يحصل هنا, مع فارق أن استصدار القرارات المؤيدة لمصالح التكتلات الصناعية والتجارية, مازال يتم عبر جماعات الضغط التي تمارس دورا هائلا في صناعة السياسة الأوروبية, ويوجد في برسل عاصمة الاتحاد الأوروبي وحدها 1000 جماعة ضغط عن قطاع الصناعة,كما يوجد مئات شركات العلاقات العامة التي تقدم خدماتها المأجورة لحساب أرباب الصناعة والمال للتأثير في القرارات الحكومية.. وهناك أيضا كتلة مهمة من نواب البرلمانات الأوروبية الذين لا يخفون ولاءهم للشركات التي تكافئهم بسخاء مقابل خدماتهم في إعاقة استصدار قوانين حماية المجتمع من أخطار الصناعات الكيميائية, وتدمير البيئة, وغيرها من القرارات التي يمكن أن تضر بمصالح أسياد المال.
ورغم جهود مجموعة الدول الثماني لتقديم نفسها بمظهر المكافح ضد البؤس والمعاناة في دول العالم الأكثر فقرا, فإن البيانات والإحصاءات تشير في اتجاه معاكس تماما , فحتى اليوم وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على عقد أول اجتماع لها (منذ أن كانت مجموعة الست), عام 1975, يموت طفل واحد كل ثلاثين ثانية بسبب نقص المياه النظيفة, ويعيش نصف السكان في جنوب الصحراء الإفريقية بما يعادل نصف ما يدفع من إعانات للبقرة الأوروبية (أقل من دولار واحد يوميا), في حين بلغ عدد البشر الذين يعيشون تحت خط الفقر مليار نسمة أو ثلث سكان العالم, في الوقت الذي يملك فيه 587 شخصا وعائلة, ما مجموعه 9.1 مليار دولار!!
والذي يثير الإحباط أكثر هو سياسة المعيار المزدوج حتى في القرارات الاقتصادية الذي تفرض قسرا على الدول الضعيفة من قبل دول الشمال, ففي الوقت التي تقضي فيه المعاهدات التجارية بفتح الأبواب أمام المنافسة الحرة, تقوم الولايات المتحدة علنا بتقديم الدعم لصناعاتها الزراعية والفولاذية بمعونات مالية ضخمة, وتمنع حكومات الدول الأخرى بالمقابل من اتخاذ مثل هذا الإجراء, محولة حرية التجارة العالمية المفترضة إلى كذبة كبيرة, وتتلخص سياستها في هذا المجال بــ: "لاتعمل ما أعمله أنا, بل قم بعمل ما أقوله لك", وهذا ما تسبب في اتساع معسكر المناهضة لسياسات الليبرالية الجديدة ممثلة في مجموعة الثماني, بحيث لم يعد مقتصرا على المعارضة اليسارية من أعداء الرأسمالية, بل صار يضم كذلك دولا وحكومات عديدة استشرفت الخطر المقبل.
نهاية الديمقراطية: أو بدء عصر ديمقراطية السوق, هو النتيجة الأكثر هولا بالنسبة للغربيين البعيدين حتى الآن بشكل كاف عن المعاناة المباشرة لنقص التغذية والتدمير البيئي الكارثي, فمنذ بداية التسعينيات أصبح أكثر من ثمانين في المائة من الأمريكيين ينظرون إلى النظام الديمقراطي على أنه كذبة كبيرة, وبدا تأثير الخيبة عند المواطن الغربي واضحا بشدة في اللامبالاة السياسية, وعزوفه التدريجي عن المشاركة في العملية الانتخابية.وبدأت ديمقراطية الاستهلاك تحتل معظم المشهد الثقافي, وصار التسويق والإعلان من القوة بحيث نجح في احتجاز الأطفال والشباب في دوامة الاستهلاك, وشكل في أدمغتهم الفتية ثقافة "الماركة التجارية الشهيرة", إلى الدرجة التي دفع ببعضهم للتصريح للصحافة بأنه يعتبر الناس الذين لايرتدون ملابس تحمل علامات تجارية مجرد "نكرات" ينبغي الحذر عند الاقتراب منهم والتعامل معهم.
وفي الخاتمة يوجه الكتاب نداء حارا للجميع, يقول فيه: في الوقت الذي تذوب فيه الطبقة الجليدية في القطبين, ويحترق العراق, ويعيش الملايين في الجوع والفقر, فإن الوقت قد حان لكي نرفع أصواتنا بقوة. من أجل الإنسانية ومن أجل هذه الأرض, بل وفوق هذا كله من أجل العدل.
- عماد صباغ