إرهاب 60 عاما
تمر هذه الأيام على الأمة الذكرى المؤلمة الـ 60 لاحتلال فلسطين من قبل الصهاينة بعد أن مهد لذلك البريطانيون, وبعض الغربيين خاصة الولايات المتحدة. وتمثل هذه الذكرى المؤلمة, والحزينة محطة انقلاب في وضع الأمة منذ ذلك التاريخ, وحتى الآن, حيث سادت المحن, والشدائد, والتمزق بين مكونات الأمة بفعل هذه الفاجعة والكارثة، وفي ظني أن ما عقب نكبة 48 من نكبات يعود لفشل النظام الرسمي العربي في الوقوف على مواطن الضعف التي أنهكت الأمة, وجعلت منها هيكلاً لا حراك فيه, ولا روح حتى أصبح بضعفه فرصة سانحة لمزيد من العدوان بهدف نهب خيراته, وابتزازها أشد ابتزاز, وأبشعه, وإذا كان القادة الصهاينة قد نجحوا في تأسيس وطن قومي وديني على أرض فلسطين بحسن التخطيط ومزيد العمل, ودعم الآخرين ((إلا بحيل من الله وحيل من الناس)) فإن أمتنا لا تزال تراوح مكانها، ولم تنجح في تخطي الخلافات البينية، بل إنها تزداد ضراوة كلما أملنا في هدوئها, ولا أقول انتهائها. وإذا كانت مسيرة العدو الصهيوني حافلة بكل قبيح, وشنيع من أعمال العدوان, والقتل, والتدمير من اجتياح, ومذابح جماعية كما في دير ياسين، وصبرا وشاتيلا، وجنين، وغزة, ومن قتل الأطفال، والشيوخ، والنساء، وزج بالفلسطينيين في السجون, والمعتقلات حتى النساء الحوامل قبعن في السجن مكبلات بالسلاسل منذ أن تأسس الكيان وحتى الآن فإن واجب الأمة مراجعة نفسها لمعرفة اتجاه البوصلة هل هو في الاتجاه الصحيح, أم أنة خاطئ، خاصة الهرولة وراء دعوات السلام الزائف الذي لا يعدو أن يكون ذراً للرماد في العيون, وتغطية على الجرائم القائمة بشكل يومي على أرض فلسطين. الاحتفال بالذكرى الـ 60 من قبل الصهاينة, ومن يساندهم ليس بالغريب فعملية الاحتفال تشكل طاقة تساعد المجتمع الصهيوني على الاستمرار في مسيرة العدوان، والسطو، وهذا من شأنه تقوية الروابط بين اليهود الذين جاءوا من كل حدب, وصوب بألوان شتى ولغات مختلفة لكن مشاعر موحدة جذبتهم إلى فلسطين. الاحتفال عمل جماعي يشعر من خلاله كل فرد بالانتماء للجماعة ولا يحس بأنه لوحده في الميدان، ويتذكر في الوقت ذاته الدور والمسؤولية الملقاة على عاتقه بهدف المحافظة على هذا الإنجاز المتمثل في سرقة الأرض, ونهب الخيرات طوال الـ 60 عاما الماضية. تعود بي الذاكرة إلى أيام البعثة في الثمانينيات الميلادية حين كان أستاذ علم النفس الاجتماعي اليهودي الأصل يستشهد في إحدى المحاضرات بالكيبوتز كنموذج فريد في التربية الجماعية ومن إنتاج اليهود في فلسطين وهدفه خلق الوحدة ودمج الجميع في بوتقة واحدة يسيرون لهدف واحد مما يحقق المحافظة على الدولة المسروقة من أهلها الفلسطينيين. كان ذلك الأستاذ يشيد بالتجربة على أنها تجربة رائده في تطبيقات علم النفس، حيث يتعلم الأطفال في هذه المزارع الصبر, والتخطيط والتعاون, والعمل الجماعي مما يزيد من وحدتهم وتمسكهم. علقت على الموضوع لكن لم يعجب الأستاذ في تعليقي على إشادته بالتجربة, حيث أبنت له أن أخذ الأطفال من بيوت أهلهم وإسكانهم في المزارع الجماعية, أو ما يعرف بالكيبوتز، ولفترة طويلة تمتد لسنوات قد يحدث شعوراً لدى هؤلاء الأطفال بأن أمراً غير طبيعي حدث ويحدث, وهذا من شأنه على المدى البعيد أن يحدث شيئاً من عدم التوازن النفسي، وعدم الأمان والاطمئنان. الشعور بالأمن مطلب أساسي لكل فرد يرغب أن يعيش هادئاً مطمئناَ ويزاول حياته بصورة طبيعية، وإذا ما افتقد فرد الأمن ساد حياته الاضطراب، وعدم الاستقرار, وتشتت ذهنه, ولم يعد قادراً على التركيز. بالأمن تحلو الحياة، ويطيب المأكل, ويلذ النوم، ويكون الإنتاج والعطاء. في استطلاع للرأي نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية ذكر 96 في المائة من المستطلع رأيهم مجموعة مخاوف منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو مرتبط بنشوب حرب مع الجيران, ومنها ما هو مرتبط بالخوف من امتلاك العرب, والمسلمين أسلحة نوويه. استطلاع الرأي هذا يفترض ألا نتعامل معه بهذه العمومية حتى وإن كان مؤشراَ على الانهزامية التي يشعر بها الأعداء، فاستطلاع الرأي في الدول, والمجتمعات التي تدرك قيمته تستغله للتخطيط، وإعادة البناء النفسي، والاجتماعي, ومعرفة جوانب القوة, والضعف في المجتمع ورسم السياسات المناسبة. لا أخال المؤسسات الرسمية في دولة الكيان الصهيوني تهمل نتيجة استطلاع الرأي بدءاً بالمدارس، ووسائل الإعلام، والجيش، والأجهزة الأمنية كافة، وكل الجهات ذات العلاقة، إذ أن هذه الجهات ستعمل على تخطي مشاعر عدم الأمن من خلال البرامج والأنشطة المؤدية لذلك. ديننا الإسلامي أكد أهمية الأمن على الصعيدين الفردي والاجتماعي في عدة آيات وأحاديث "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" كما ورد في الحديث الشريف " نعمتان مجحودتان مغبوط بهما كثير من الناس الأمن في الأوطان والسلامة في الأبدان" كما ورد قوله صلى الله عليه وسلم "من بات آمناً في حصنه، معافى في بدنه مالكاً لقوت يومه عاش كمن قيدت له الدنيا بحذافيرها"، كما أن الدراسات العلمية أثبتت قيمة الشعور بالأمن كحاجة من الحاجات الأساسية التي لا يستغني عنها الإنسان سواءً كان كبيراً، أو صغيراً, غنياً, أو فقيراً, وهذا ما نشاهده حيث إن المجتمعات التي تسودها نكسات أمنية تضطرب فيها الحياة, ويتأثر الاقتصاد تأثراً سلبياً, ويتراجع الإنتاج الوطني، بل وتنقل الأموال من الوطن إلى خارجة تفادياً لهذه الأوضاع غير الطبيعية. هل يشعر السارق أو المجرم بالأمن والاطمئنان؟ كلا ومهما كان حذره وحيطته، ومهما كانت قوته، هذا إذا كان قد سرق مبلغاً من المال فكيف بمن سرق أرضاً بكاملها وشرد أهلها وقتل، وهدم, وكسر العظام، إن فرداً أو شعباً كهذا لن يشعر بالأمن, وهو يحمل هذا السجل فوق ظهره, وبنيته النفسية الأساسية قد جبلت على الخوف والهلع "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى".