استثماراتنا الغذائية الخارجية.. مشروع أمن غذائي عالمي لا سعودي
كلف مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة الأسبوع الماضي وزارتي الزراعة والتجارة والصناعة بسرعة رفع نتائج المسح الشامل للدول التي تتوافر لديها إمكانات وفرص الاستثمار في القطاع الزراعي والثروة الحيوانية والسمكية خلال مدة لا تتجاوز شهرين، كما كلف المجلس وزارات المالية والزراعة والتجارة والصناعة إعداد الدراسات اللازمة المتعلقة بإنشاء شركة سعودية قابضة بين القطاعين العام والخاص للتطوير والتشغيل والاستثمار الزراعي والحيواني في الدول الأخرى ورفع هذه الدراسات إلى مجلس الوزراء خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. تتابع قرارات مجلس الوزراء المتعلقة بالأمن الغذائي تظهر حرص الدولة وسعيها الحثيث إلى تخفيف معاناة المواطن من تبعات الارتفاع المستمر في أسعار المنتجات الغذائية الأساسية، وهي المشكلة التي أصبحت هما عالميا مقلقا لا يتوقع انحساره أو تراجع حدته قريبا، فمعظم التقديرات تشير إلى أن أزمة الغذاء العالمي في تفاقم وأننا لم نر الأسوأ منها بعد.
إلا أن علينا أن ندرك أن أزمة الغذاء العالمية لن تكون صعوبة تواجهها دول العالم في تأمين حاجتها من السلع الغذائية الأساسية، فهذه السلع ستكون دوما متاحة ومتوافرة لمن يملك الموارد اللازمة للحصول عليها، لكن أسعارها ستكون في ارتفاع مستمر ما يجعل دول العالم الفقيرة وفقراء العالم غير قادرين على تأمين احتياجهم منها، ليس بسبب عدم توافرها، وإنما بسبب غلاء أسعارها ووصولها إلى قيم تجعلها خارج نطاق موارد تلك الدول ومستويات دخل مواطنيها. من ثم فإن المملكة، وفي ظل ما أنعم الله عليها من موارد مالية، لن تكون بين الدول التي ستواجه مشكلة في تأمين احتياجاتها الغذائية أو أن يهدد أمنها الغذائي بسبب صعوبة تواجهها في الحصول على مصادر كافية لمواجهة احتياجاتها الغذائية، ما يستدعي البحث عن مصادر جديدة أو أن تبذل جهودا ذاتية يمكن بها تلبية احتياجاتنا الغذائية. من ثم لا يتوقع أن يكون هناك تأثيرات مباشرة في أمننا الغذائي نتيجة دعم الدولة استثمارات زراعية سعودية في الدول الأخرى، فالموضوع ليس متعلقا باحتياج خاص لنا في المملكة يمكن تأمينه من خلال زيادة إنتاجه محليا أو من خلال دعم إنتاجه في بلدان أخرى. بالتالي فإن امتلاكنا استثمارات زراعية في دول أخرى لن يجعلنا نحصل على هذه المنتجات دون غيرنا في العالم، أو أن تباع لنا بسعر يقل عن السعر السائد لهذه المنتجات في السوق العالمية. على سبيل المثال لو حدث نقص في إنتاج العالم من الأرز فلن يكون بمقدورنا تأمين حاجتنا منه دون العالم لمجرد أننا دعمنا زراعته في بلد ما، أو أن يوافق مستثمر قدمنا له الدعم أن يبيع إنتاجه لنا بسعر يقل عن السعر العالمي. ولعل تجربتنا مع موردي الأرز حاليا خير شاهد على ذلك، فرغم أن معظم الأرز الموجود في مخازنهم قد تم شراؤه قبل سنوات، إلا أنهم مع ذلك يصرون على بيعه محليا بسعر يعكس سعره الحالي في السوق العالمية لا تكلفة شرائه الفعلية، وعلينا ألا نتوقع معاملة مختلفة من أي مستثمر مهما قدم له من دعم.
محدودية أهمية دعم استثماراتنا الزراعية خارجيا على أمننا الغذائي يملي أن تكون هذه الاستثمارات مدفوعة بمبررات استثمارية بحتة، باعتبار أن النمو المتوقع في الطلب على الغذاء يخلق فرصا استثمارية للشركات الغذائية في العالم، ومن بينها شركاتنا الغذائية، فزيادة استثماراتها في دول تمتلك مساحات زراعية غير مستغلة فرصة مناسبة لتنوع استثماراتها الخارجية وتوسعها، وتوافر مجالات استثمار تعوضها عن تراجع فرص الاستثمار المحلي الزراعي في ظل التغيرات التي طرأت أخيرا على استراتيجيتنا الزراعية والمائية. أيضا فهذه الاستثمارات يمكن أن تكون تطويرا لأسلوب الدعم والمساعدة التي تقدمها المملكة للدول النامية، فمن خلال تشجيع القطاع الخاص السعودي على توسيع استثماراته الغذائية في هذه الدول نزيد من قدرة اقتصاداتها على النمو ونوسع فرص العمل المتاحة لمواطنيها ونرفع كفاءة قطاعها الزراعي، ما يجعل هذا الدعم توظيفا إيجابيا لمواردنا المالية يزيد من قدرة العالم على تأمين حاجته من الغذاء، من خلال مساهمة المملكة في تطوير مساحات زراعية شاسعة قد تكون يد التنمية الزراعية لم تصلها بعد أو ليس بالقدر الذي يسمح باستغلالها بكفاءة، وهو مطلب ملح في ظل أزمة الغذاء العالمية المتوقع ازدياد حدتها خلال السنوات المقبلة.
إن صورة المملكة في العالم ستخدم بشكل كبير من خلال مجرد تبنينا نظرة مختلفة لمشروع دعمنا للإنتاج الغذائي خارجيا، فالمملكة بما تملكه من إمكانات ستكون في واقع الأمر بين الدول الأقل تأثرا بأزمة الغذاء العالمية، وقد تكون آخر دولة في العالم تواجه صعوبة في تأمين احتياجاتها من الغذاء، إلا أن استشعارها مسؤوليتها هو ما يدفعها للعب دور بناء يصبح معه العالم في وضع أفضل لتأمين احتياجاته من الغذاء مستقبلا. أما احتياجاتنا الغذائية فتأمينها سيكون مربوطا فقط بقدرتنا المالية، لا بما نملكه من استثمارات زراعية خارجية، وأمننا الغذائي يتحقق تماما من خلال بناء مخزون استراتيجي حكومي للسلع الغذائية الأساسية ليكون رديفا للمخزون التجاري الذي يحتفظ به الموردون، يمكن استغلاله لتأمين حاجة الأسواق عند حدوث أي أزمة وللضغط على الموردين إن حاولوا افتعال أزمة لرفع الأسعار دون مبرر.