فصل المقال
الاجتهاد باب فيه سعة، ولكن بقدر كونه واسعاً فهو يقع تحت جملة من القواعد اللازمة الإدراك والاعتبار، فهو واسع باعتبار مقيد عن هذا باعتبار، ومن أخص ما يقصره اختصاصه بأهله، وعن هذا تكلم أهل الأصول في أهلية المجتهدين، وذكروا في أهلية المجتهد شروطا بالغة، وذكر كثير منهم المجتهد المطلق وما دونه على صفات، وجملة المقصود أن الاجتهاد رحمة في الشريعة إذا كان في بابه ومن أهله، وعن هذا امتدح الشارع المجتهد في الحكم، كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).
وعن هذا صار لأئمة الاجتهاد قدر عن عامة المسلمين، وتفرع عن اجتهادهم جملة من المدارك والمعارف المحصلة من نصوص الشريعة ومقدماتها، وإذا قرأت اختلافهم في فهم فروع الشريعة تجد اعتباراً بينهم لاجتهاد كل ذي أهلية كما هو الشأن في الأئمة الأربعة وأصحابهم، وعنهم تكونت مدرسة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وذم الأئمة المحققون ومحققو أصحابهم التقليد المائل إلى وجه من التعصب، بل هذا المعنى يقر بتركه عامة أهل العلم وإن كان يعرض حالا لبعضهم بعضا، ما ينافي ذلك، وفي الجملة فذم التقليد والتعصب يدل على امتداح مقام الاجتهاد القاصد إلى تحقيق الاتباع لأدلة الشريعة ومقاصدها، ولا يقع عن هذه السعة في ترتيب أحكام الاجتهاد تأول من ليس من العارفين في العلم بإطلاق أو إغلاق في حكم الشريعة تحت اسم الاجتهاد، فإن الاجتهاد يقصر على أهله، والعامة من المسلمين هم على سعة في أقوال أهل الاجتهاد مع لزوم مقصدهم اتباع دلائل الشريعة والبعد عن تتبع هوى الأنفس الجامح إلى إسقاط أحكام الأمر والنهي، فاعتبار الوسط حكمة وفضيلة، وقد ذكر بعض المحققين منهم الإمام ابن تيمية: أن من علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ لأن الله غفر له خطأه، وعن هذا ترى رحمة الشارع لما قال: (وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). وهذا من فضل الله على أهل العلم، وفضل الله واسع على سائر عباده، والله الهادي.