السياسة النفطية.. التجربة النيجيرية (2 من 2)

[email protected]

استمر ضباط الجيش النيجيري في التعاقب على حكم البلاد قرابة 20 عاما. وعلى الرغم من أن التاريخ السياسي سجّل للحكم العسكري مقدرته على إخراج البلاد من ظلمات الحرب الأهلية، إلا أن التاريخ الاقتصادي سجّل للحكم العسكري تواضعه في تنمية صناعة النفط النيجيرية واستدامتها.
لم تكن شركة رويال دويتش شل النفطية إبان الحرب الأهلية والحكم العسكري سوى الرابح الأكبر من مزاولة حق الامتياز في استخراج النفط وتكريره في منطقة دلتا النيجر حتى منتصف التسعينيات الميلادية.
تشير أدبيات الأعمال الدولية إلى أن الشركة صدّرت قرابة 50 في المائة من النفط النيجيري. وتشكل عمليات النفط النيجيري قرابة 11 إلى 12 في المائة من مجموع عملياتها الدولية. وتضخ هذه العمليات قرابة 200 مليون دولار أمريكي سنويا كصافي أرباح في خزانة الشركة.
تمركز معظم عمليات الشركة في منطقة دلتا النيجر، حيث تعد المنطقة المنتج الرئيس للنفط منذ عام 1958. وعلى الرغم من أن الشركة استطاعت استخراج ما قيمته قرابة 30 مليار دولار من نفط هذه المنطقة، إلا أن المنطقة ما زالت من أفقر المناطق النيجيرية ويعمل معظم سكان المنطقة في الزراعة. وكما هو معلوم، فإن استصلاح الأراضي الزراعية بعد الاكتشافات النفطية يضعف الجدوى الاقتصادية لإنتاج المنتجات الزراعية وتصديرها. كما أن المنطقة لم تحظ سوى بـ 3 في المائة من عائدات نفطها لتنفيذ المشاريع التنموية.
شكلت جميع هذه الظروف الاقتصادية عداء لدى سكان منطقة دلتا النيجر نحو الشركة. تطورت حالة العداء بداية التسعينيات الميلادية من الألفية الماضية عندما نشطت في المنطقة جماعة مسلحة. بدأت الجماعة بمهاجمة منشآت الشركة في المنطقة، وتهريب النفط بهدف بيعه في السوق السوداء.
لم يقض على هذه الجماعة المسلحة سوى الجيش النيجيري عندما حاصر الإقليم، وبدأ حملة عسكرية للقضاء على الجماعة المسلحة واعتقال قادتها. قضي على الجماعة بعد إعدام قائدها وثمانية من معاونيه بعد مجموعة من جلسات المحاكمات العاجلة.
انعكست عمليات الإعدام بالسلب على العلاقات الدولية النيجيرية. فسحب سفراء أمريكا والاتحاد الأوروبي من العاصمة أبوجا، وعلقت المساعدات المالية، وأوقفت معاهدات بيع السلاح، وعلقت عضوية نيجيريا في منظمة دول الكومنولث، وبدأت حملة دولية ضد الحكومة النيجيرية.
وعلى الرغم من أن جميع هذه القرارات المتسارعة، إلا أن اتفاقيات تصدير النفط النيجيري لم تكن ضمن جدول أعمال المقاطعة الدولية. فاستمرت شركة رويال دويتش شل النفطية في استخراج النفط وتصديره من منطقة دلتا النيجر رغم وجود حالات الفلتان الأمني.
واصلت منطقة دلتا النيجر المطالبة بزيادة نصيبها من النفط المستخرج من أراضيها وحتى اليوم ولكن بآليات وأساليب مختلفة، حيث تطورت المطالبات من الحصول على زيادة في مخصصات العائدات النفطية إلى المطالبة بالاستقلال الكامل عن نيجيريا عبر حركة استقلال دلتا النيجر.
اتبعت عملية تأسيس الحركة تشكيل مجموعات مسلحة صغيرة من أبناء المنطقة لضرب مصالح شركات النفط الأجنبية العاملة في المنطقة، فتارة تخطف مجموعة من عمال النفط، وتارة تقتل مجموعة أخرى، وتارة تدمر منشأة نفطية، وتارة تعطب أنبوبا نفطيا.
استجابت الحكومة النيجيرية للضغوط منذ مطلع العقد الحالي عندما بدأت برنامج إصلاح اقتصادي شاملا تحت إشراف صندوق النقد الدولي. هدف البرنامج إلى تحقيق النمو والرخاء الوطني، والاستجابة المثلى لمتطلبات أسواق النفط العالمية.
شمل برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل مجموعة من السياسات من أهمها إعادة هيكلة الصناعة النفطية، وتحديث القطاع المصرفي، وتخصيص مجموعة من مصافي تكرير النفط، وإلغاء قرابة 18 مليار دولار من الديون الخارجية عبر نادي باريس.
انعكست هذه السياسات بالإيجاب على المؤشرات الاقتصادية. يشير كتاب حقائق وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى وصول إجمالي الناتج المحلي النيجيري العام الماضي، إلى مستوى 188.5 مليار دولار، ونما نصيب الفرد منه إلى 1400 دولار، تشير إحصاءات "أوبك" إلى نصف هذا الرقم تقريبا.
وعلى الرغم من جميع هذه الإنجازات الاقتصادية، إلا أن حالات الفلتان الأمني في منطقة دلتا النيجر ما زالت مستمرة. وما زالت صناعة النفط النيجيرية تعمل بأقل من طاقتها الاستيعابية، ورامية بظلال الأزمة على مستويات العرض، والطلب، والأسعار، والعقود الآجلة في أسواق النفط العالمية.
تجربة صناعة النفط النيجيرية هي إحدى الحالات الدراسية التي دائما ما يستشهد بها في أدبيات الأعمال الدولية لتوضيح انعكاسات تواضع السياسات النفطية الوطنية على تحقيق التنمية المستدامة للاقتصاد الوطني، وآليات تلبية احتياجات أسواق النفط العالمية.
تحمل التجربة العديد من التحديات والفرص في إدارة عوائد النفط ومنهجية الاستثمار الأمثل بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة للاقتصاد الوطني. كما تحمل العديد من الدروس والعبر في تطوير السياسات النفطية الوطنية بما يضمن تحقيق النمو والرخاء للمواطنين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي