أيتها الشركات الوطنية.. أين الوطنية؟

حدثني أحد الإخوة الفضلاء أن سيارات كبيرة من نوع (تريلا) تتجه - زرافات ووحداناً, وبأعداد كثيرة جداً - عبر الحدود إلى قطر وبعض الدول المجاورة, محملة بأطنان الحديد من بعض الشركات المحلية, في الوقت الذي تئن فيه سوقنا المحلية من ارتفاع أسعار الحديد؛ لأسباب عدة, من أهمها: قلة العرض, وكثرة الطلب, حتى إن بعض المواطنين يطلب قدراً معيناً من أطنان الحديد من إحدى الشركات الكبرى, فلا يصرف له إلا القليل, بحجة قلة المعروض!! وقد اضطر كثير من المواطنين إلى التوقف عن البناء بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء, ولا سيما الحديد, فضلاً عن الأعداد الغفيرة من المقاولين الذين تكبدوا خسائر فادحة نتيجة ارتفاع الأسعار, مما أدى إلى توقفهم عن العديد من المشاريع العمرانية, سواء الأهلية منها, أو الحكومية. وقبل أيام جاء في جريدة "الوطن" السعودية, في عددها ليوم الخميس الماضي, بتاريخ (25/4/1429هـ) الخبر التالي: "كشف نائب وزير التربية لتعليم البنات الأمير خالد بن عبد الله آل سعود عن سحب وزارة التربية مشاريع مدرسية من مقاولين؛ لعجزهم عن التنفيذ بعد ارتفاع أسعار مواد البناء. وأوضح المشاري.. قائلاً: إن ارتفاع تكاليف الإنشاء له أثر سلبي في تنفيذ المشاريع في الوزارة.., ونضطر إلى سحب بعض المشاريع من بعض المقاولين لعجزهم عن التنفيذ!!"أهـ. وإلى هنا أتساءل, ويتساءل غيري: أين موقع الوطنية من خريطة بعض الشركات الوطنية التي تفضِّل بيع منتوجاتها خارج حدود وطنها, وهل الوطنية التي يتحدث عنها الكتاب, والمثقفون, والتجار, والساسة, هل هي في واقع تعاملاتنا مجرد شعار, أم حقيقة؟ وهل هي مجرد علامة (استكر) يتم تسويقها, أم هي سلوك وممارسة؟
وهل يليق بالقائمين على بعض هذه الشركات أن يصدِّروا الحديد وغيره من مواد البناء, والمواطنون في الداخل يعانون أشد المعاناة من ارتفاع أسعارها لكثرة الطلب, وقلة المعروض؟!! ألا تكفي الأرباح في الداخل, حتى نفتش عنها في الخارج؟ ألا يكفي أن تحقق الشركة أرباحاً معقولة, من أن تحقق أرباحاً طائلة, تملأ الأرصدة, وتصيبها بالتخمة؟ ألا ينبغي أن نكون أكثر رشاقة في أرصدتنا, وأكثر وطنية في بلادنا؟ ماذا يعني أن تحقق الشركة (التي يشكل الحديد أحد منتجاتها الرئيسة) أرباحاً بالمليارات في مدة ثلاثة أشهر؟ هل يعني هذا: أنها لا تراهن على ارتفاع الأسعار, أم ماذا؟ لقد دخلت على الموقع الإلكتروني لإحدى الشركات الكبرى, فوجدت فيه التقرير الآتي: "حققت الشركة (....) أرباحاً صافية أولية موحدة عن الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2008م بلغت 6.92 مليار ريال، مقابل 6.28 مليار ريال في نفس الفترة من عام 2007م، بنسبة ارتفاع 10 في المائة، وقد بلغ ربح السهم 2.31 ريالا, مقابل 2.10 ريالا, في نفس الفترة من العام السابق، علماً أنه تمت زيادة رأس المال من 25 مليار ريال (2500 مليون سهم) إلى 30 مليار ريال (3000 مليون سهم)، وفقاً لما أقرته الجمعية العامة غير العادية المنعقدة في 29 آذار (مارس) 2008م. كما بلغت الأرباح التشغيلية الأولية في الربع الأول من عام 2008م 10.89 مليار ريال، مقابل 9.56 مليار ريال عن الفترة نفسها من العام الماضي، بزيادة 14 في المائة، وترجع هذه الزيادة إلى تحسن أسعار مبيعات معظم المنتجات الرئيسة، وارتفاع حجم الإنتاج والمبيعات بنسبة 6 و4 في المائة على التوالي)...الشركة حققت نتائج إيجابية جراء عملياتها المتنامية في الأسواق الأخرى، ولا سيما آسيا، خاصةً الصين"أهـ والسؤال الذي يطرح نفسه: ما المبيعات التي تحسنت أسعارها؟
وإذا أثير موضوع منع التصدير, أو تقييده, يلوَّح ضده قضايا عدة, من أبرزها:
1- أن هذا يتنافى مع السوق الحرة!! ولا أدري هل يعي هؤلاء أنه لا توجد في هذه الدنيا سوق حرة 100 في المائة؟! وإذا كانت الولايات المتحدة (وهي أم الرأسمالية في عصرنا الحاضر) قد ضربت بالسوق الحرة عرض الحائط منذ شهور, فلماذا لا يزال البعض يتشبث بالسوق الحرة, وكلنا يعلم ما قامت به أمريكا والدول الأوروبية حين ضخت بنوكها المركزية مئات المليارات لإنقاذ أسواقها المالية من أزمة الرهن العقاري, وهو ما يخالف نظرية السوق الحرة, كما لا يخفى.
2- أن هذا يخالف اتفاقيات الحكومة مع دول الخليج, ومع منظمة التجارة العالمية, ولا ريب أن من صفات المسلم الوفاء بالعهد, ولكن لي مع هذا الأمر وقفات عدة:
الأولى: لماذا لم يحسب المعنيون بوضع مثل هذه الاتفاقيات حساباً لمثل هذه الظروف التي يمر بها البلد, وقد أحسنت الهند صنعاً (وهي ممن انضم إلى اتفاقية منظمة التجارة) حين جعلت لها الحق في تقييد تصدير الأرز, باعتبارها من السلع الرئيسة في البلد, تحسباً لمثل هذه الظروف الدولية التي قد تستمر مدة من الزمن, وذلك حتى لا تقع فريسة سهلة لهذه الاتفاقية أو تلك.
الثانية: أن الدولة باستطاعتها أن تتحايل بحيلة مشروعة لتخرج من هذه الورطة, وذلك أن تضع شروطاً تعجيزية على تصدير هذه السلعة أو تلك, وقد نما إلى علمي أن إحدى الجهات المختصة في بلادنا قد وضعت بعض هذه الشروط على الأسمنت لتضييق فرصة تصديره إلى الخارج, وهي حيلة حسنة في مثل هذه الظروف, وأرجو تعميمها على غيرها من السلع الرئيسة.
الثالثة: أن بعض الدول الرئيسة في منظمة التجارة, بل أكبر دولة راعية للمنظمة, قد خالفت أبرز مبدأ للمنظمة, وهي السوق الحرة, حيث قامت الولايات المتحدة بسلوكيات عدة مخالفة للسوق الحرة, ومنها قيامها بدعم المزارعين؛ لما يحققه هذا الدعم من مصلحة كبيرة لمواطنيها, وسياسة الدعم تخالف مبدأ المنظمة, ومن هنا فإني أعتقد أن الالتفاف على اتفاقية منظمة التجارة عند الضرورة, بشكل أو بآخر, هو مما تمليه المصلحة العامة للبلد.
وإلى جانب تقييد التصدير, أرى أن هناك حلولاً أخرى, يمكن أن تخفف من لهيب أسعار البناء, ومنها:
1- تعزيز المنافسة بدعوة التجار إلى فتح مصانع جديدة لمواد البناء, ولو أن تقوم الدولة بإنشاء تلك المصانع, ويمكن أن تملِّكها للمواطنين عبر أسلوب الاكتتاب, مما ينعكس إيجاباً على الأسعار, ويرفع من مستوى الدخل للمواطن, ويساعد على تخفيض السيولة.
2- تحويل الطلب الحكومي لمواد بناء المشاريع الداخلية من الشركات المحلية إلى الشركات الخارجية, حيث تستورد الدولة (الحديد والأسمنت... إلخ) من الخارج, والدولة لديها - بحمد الله - ترهل كبير في الميزانية, وتملك القدرة الكافية على استيراد حاجتها من الخارج, وبهذا تسهم في تقليل الطلب على مواد البناء, وكما قرر الفقهاء منذ أزمان متطاولة, أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة, والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي