صناعة تخطت كل حدود الممكن
" في ظل الأجواء الغائمة التي تبدو للوهلة الأولى غير مشجعة لأي جهد بشري، تطوف هذه الزاوية كل أسبوع ببقاع متفرقة دون أن تتقيد بحدود جغرافية لترصد إختلالات متنوعة تدرسها وتعالجها أملا في أن يكون الخلل مفتاحا للصواب".
لقد تعددت المراكز والأسواق التجارية في المملكة وتنوعت أشكالها، كما تعددت وتنوعت السلع والبضائع. هذا التعدد والتنوع نتج عنه جرائم غش لا يمكن تصورها. بيع لحوم فاسدة، بيع أدوية تالفة، خلط البنزين بالماء والديزل، بيع قطع غيار سيارات وآلات مقلدة، بيع مواد تجميل ومساحيق وجه منتهية الصلاحية، بيع حليب أطفال ودواجن وأغذية متعفنة، والقائمة تطول. وهي جرائم تؤدي إلى الوفيات والتشوهات والعاهات المستديمة، وزيارة واحدة للمستشفيات المتخصصة تغني وتكفي لتصور الواقع المأساوي الذي نعيشه جميعا دون استثناء.
إن صناعة الغش التجاري والتقليد تخطت كل حدود الممكن وانتهت إلى ما يشبه الاستراتيجية التدميرية التي يسعى من خلالها محترفو هذه الصناعة إلى إضعاف كل ما له علاقة بحياة الناس، والأمر البالغ الخطورة هنا هو أن اقتصاديات التقليد والمنفعة الناشئة عن ممارسة الغش التجاري صارت تمارس في غالبها في الهواء الطلق وعلى نحو لا يخلو من القصد المسنود بحسابات الربح والخسارة. وبالمقابل فإن العقوبات لدينا لا تعدو كونها غرامة مالية لا تشكل إلا قيمة زهيدة من الهامش الربحي الذي يحصده تجار الغش والتقليد.
أمام هذا الواقع بثار العديد من التساؤلات منها:
* هل نحن بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة مفهوم الغش التجاري؟
* هل بمقدور وزارة التجارة والصناعة ممثلة في الإدارة العامة لمكافحة الغش التجاري السيطرة على هذه الظاهرة؟ أم أننا بحاجة إلى شركات متخصصة تتولى هذه المهمة؟
* هل الغش التجاري عملية مرتبطة ببيئتنا المحلية فقط؟ أم أنها عملية دولية معقدة ومتعددة الأطراف؟
* إلى من نتوجه بأصابع اللوم والعتب؟ إلى المستهلك؟ الهدف النهائي لتلك العملية القذرة الذي شجع تلك السلع المقلدة وحفز التجار المخالفين على المضي قدما في تجاوزاتهم القانونية، ليس هذا وحسب بل إنه بذلك التشجيع رجح كفتهم على التجار الذين حافظوا على القانون والنظام. هل نلوم التاجر الذي غلبه الطوفان فلم يستطع المقاومة؟ وبالتالي خضع لإغراء الكسب غير المشروع أسوة بما هو سائد من حوله. أم هل نلوم تلك المصادر المصنعة لتلك البضائع والسلع والمنتجات المغشوشة التي جعلت من سوقنا المحلي هدفا نهائيا لأكثر المناطق استقطابا لما تنتجه من سلع مغشوشة ضارة صحيا وبيئيا واقتصاديا.
إن هذه التساؤلات وغيرها تحتاج إلى إجابات ومناقشة أوسع من مناقشتها في زاوية محددة بمساحة معينة. فللقضية أبواب وفصول عديدة أكثر رعبا وأشد وطأة. ومع ذلك فإننا نؤكد أن أول أسلحة المواجهة الفاعلة مع هذه القضية هو الشفافية والتوعية والتثقيف بخطورة وحساسية الموضوع سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الوطن بكافة اتجاهاته وأطيافه. ثم الفاعلية القصوى في إشراك رجال الفكر والعلم من خلال المؤتمرات والندوات والفعاليات المختلفة. إن تكثيف الوعي بأضرار هذه الظاهرة وبتبعاتها الاجتماعية والاقتصادية سيكون عنصرا شديد الحيوية في التقليل من حجم هذه الظاهرة.