المناهج الدينية والتطوير المنتظر
أظن أن وزارة التربية والتعليم هي من أكثر الوزارات حركة والتي نأمل أن يكون فيها بركة، فما بين فترة وأخرى تعلن عن تطوير هنا وتجديد هناك، ومن ذلك ما نشر في الصحف بداية العام بأنها رصدت ما يقرب من مليار ريال سعودي لإنجاز مشروع طموح لتطوير مناهج التعليم بالمملكة، وأجزم بأن مثل هذا المشروع متى ما أسس على طرق علمية ومنهجية ووفق نظرة استراتيجية لتحقيق أهداف محددة فسوف يحدث تغيرا مستقبليا مهما حين يكون المنتج التعليمي وهو المتعلم، قد أعد ليلعب دورا محددا ويؤدي عملا منتجا، وليس هناك خلاف على أن المناهج الدراسية بوضعها الحالي تتطلب بين فترة وأخرى مراجعة وتطوير في الكم والكيف معا لمواكبة المتغيرات، ونحن نعيش في زمن سريع التطور، إلا أن التطوير المطلوب كما أشرنا لا بد وأن يكون مؤسسا على خطط ومبنيا على أهداف ومحددا بفترات زمنية، وهذا التطوير في المناهج هو جزء من مطلب التطوير الشامل للتعليم والذي لا يجب أن يتوقف عند المناهج فقط، فالعملية التعليمية عبارة عن أجزاء مترابطة لن ينجح أي تطوير لها ما لم تتكامل جودة عناصرها الثلاثة، وهي المنهج والمعلم والبيئية الدراسية، لكي يمكن توظيفها لإنجاز أهداف محددة.
سوف أتوقف هنا عند المناهج الدينية، والمملكة تكاد تنفرد بعنايتها بتدريس العلوم الدينية كمادة أساسية في جميع المراحل التعليمية، ومن المهم في مشروع تطوير المناهج المزمع أن تلقى مناهجنا الدينية لفتة خاصة واهتماما مميزا، وأن يصيبها نصيب من التطوير المطلوب دون التوقف عند أي حساسية تجاه هذا الموضوع، وأول مطلب في تطوير المناهج الدينية هو أن نحدد الهدف والغاية من تدريس العلوم الدينية، فهل ندرسها لمجرد حشو ذاكرة الطالب بمعلومات محددة يطالب بحفظها عن ظهر قلب، أم نحولها إلى مادة تبني شخصية الفرد تربويا وسلوكيا وثقافيا وفق المنظور الإسلامي..؟
الملاحظ على المناهج الحالية هو أنه يغلب عليها الجانب الفقهي بل أكاد أقول إنها قاصرة عليها، ولا بأس بل ومطلوب أن نعلم أجيالنا الجديدة أمور ديننا وأسس عقيدتنا، ولكن الدين الإسلامي ليس كله فقه، بل يزخر بجوانب تربوية وسلوكية لا مثيل لها مكملة لشخصية الإنسان المسلم "لقد بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وفي هذا العصر المنفتح ثقافيا بتنا في أمس الحاجة إلى أن نؤسس أبناءنا وفق أخلاقيات وقيم إسلامية لتكون لهم شخصية قادرة على التعامل مع تأثيرات أي ثقافة أخرى تختلف عنا في قيمها التربوية والثقافية.
وهنا أريد أن أسأل: هل تحقق مناهجنا الدينية بمفرداتها الحالية ما نريده ونهدف إليه من تدريسها..؟ أعتقد أنها لا تساعد على توظيف الجانب الديني في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة التي أنتجت لنا ظواهر كالتزمت والتطرف، ولا تسهم في تصحيح العديد من السلوكيات المؤثرة سلبا في علاقاتنا الاجتماعية بهدف إعادة مفهوم المجتمع الإسلامي الوسطي الصحيح، فأين مثلا الجوانب التربوية التي حث عليها القرآن الكريم في آيات مثل "ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما" و"بالوالدين إحسانا" و"وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا" التي تؤسس لعلاقة سوية بين الأبناء والآباء والأمهات خصوصا في زمن بات فيه العقوق شائعا، وأين نحن مما جاء في القرآن من تعليم وتثقيف لأسس الحوار الإيجابي بدعوة "وجادلهم بالتي هي أحسن"، فلماذا لا ندرس أبناءنا مثلا الآيات الكريمة التي تشير إلى ذلك كحوار الله سبحانه وتعالى مع إبليس في سورة الأعراف، ومحاورة الخالق عز وجل لموسى عليه السلام "قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي"، وحين أُرِسل موسى عليه السلام وأخوه هارون لفرعون قال لهما "اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى"، وجميعها آيات تعلم وتثقف ومنها يمكن أن نغرس في النشء الجديد قيمة الحوار والتسامح واللين.
أخلص من ذلك إلى ضرورة أن تشهد مناهجنا الدينية تطويرا شاملا وتجديدا كاملا في المضمون والأهداف وطرق تدريسها، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة فيهما كم زاخر من القيم الصحيحة التي لا يحسن إيمان المسلم إلا بتوفرها، لا بد وأن تكون عناوين ومفردات المناهج الدينية، أيضا لا بد وأن نعيد النظر في كم المواد الدينية، فالقرآن الكريم يمكن أن يجمع مع التفسير في مادة واحدة، وكذلك الفقه والتوحيد ليكونا موحدين في منهج واحد، والأهم من ذلك كله هو أن نختار تدريس المواضيع والقضايا التي تعنى ببناء شخصية الفرد المسلم وتزوده بمعرفة مرتبطة بحياته الآنية، وبما تجعله قادرا على التعامل مع العصر بفكر وثقافة إسلامية مكينة وقوية، وقادرة على تحصين المسلم من التأثيرات الثقافية الأخرى من موقع قوة لا ضعف، فجزء كبير من أسباب التطرف والتزمت ناتج عن الرغبة في الهروب من الوقع.