وداعا للنفط الرخيص
صاحب مكتب سمسرة محلي في بورصة نيويورك يدعى ريتشارد أرينز، يمكنه القول بثقة إنه الشخص الذي دفع سعر برميل النفط ليتخطى حاجز المائة دولار لأول مرة في التاريخ، رغم أنه خسر قرابة 600 دولار في الصفقة التي اشترى بموجبها ألف برميل فقط، هي الحد الأدنى المطلوب للتعامل.
لكن التحولات التاريخية التي تنتج عن حوادث تبدو قليلة الأهمية، إنما تعكس في واقع الأمر متغيرات هيكلية عميقة الجذور وتحولات ترسبت عبر الزمن تحتاج إلى مجرد قشة للإفصاح عن نفسها.
بلوغ سعر برميل النفط 100 دولار، هو في نهاية الأمر حاجز نفسي، لكن أهم من ذلك أن العام الماضي شهد مضاعفة السعر من نحو 50 دولارا في بدايته إلى قرابة 100 عند ختامه، وهو تطور يقارب ما شهدته الصدمة النفطية الأولى عندما تضاعف سعر البرميل أربعة أضعاف إلى نحو 12 دولارا.
وصفة صدمة تطول جانبي المنتجين والمستهلكين، فلا أحد على جانبي السوق كان يتوقع أن تتصاعد الأمور إلى ذلك الحد وبروز قوة لم يكن يحسب لها حساب، هي المنتجين رغم أنهم كانوا يتكتلون في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) لقرابة عقد ونصف من الزمان لم يشعر بهم أحد ولم يهتم بهم أحد.
الصدمة الجديدة وهي تطول المنتجين والمستهلكين وتنبئ بتحولات مماثلة تتلخص في عبارة واحدة: أن عصر النفط الرخيص قد انتهى فعلا، ولا يقتصر هذا الوضع على النفط فقط، وإنما يشمل الغذاء ومعظم السلع، الأمر الذي يعني أن المنتجين رغم حصولهم على عوائد أكبر، إلا أنهم سينفقون الكثير للحصول على احتياجاتهم من الأسواق العالمية.
التقديرات التي بدأت تترى أن عائدات منتجي النفط قد تكون بلغت بنهاية العام الماضي 750 مليار دولار، وهو ما يشكل أربعة أضعاف ما حققته تلك العائدات قبل سنوات ست.
وبما أن المال يسحب معه النفوذ والقوة بصورة أو أخرى، فإن بعض الأصوات بدأت ترتفع لإعادة تعبير ساد من قبل في حقبة السبعينيات: وهو إعادة تدوير البترودولارات، أي إعادة إرسال الدولارات التي حصلت عليها الدول المنتجة إلى العواصم الغربية مرة أخرى عبر عمليات استثمار أو شراء وأهم من ذلك لأنه ليس لدى المنتجين المواعين الاستثمارية ولا الخبرة لتوظيف تلك الأموال.
هذه المرة تبدو الصورة مختلفة خاصة من ناحية الاحتياج لتطوير المجتمعات المحلية وهو ما يتطلب إنفاقا عاليا لاستيعاب احتياجات طبقة متنامية من الشباب الذين يحتاجون إلى الخدمات وفرص العمل.
وهناك أيضا تيار العولمة الذي أتاح فرصا بقدر ما فرض من إشكالات، وعلى رأسها أن السوق النفطية المعروف عنها أنها عالمية، تعضدت صفتها تلك بسبب العولمة، الأمر الذي جعل لمختلف العوامل الجيوسياسية من توترات أمنية أو عدم استقرار في الدول المنتجة ينعكس تلقائيا على السعر. وهكذا أصبح الغموض وعدم الوضوح أحد عناصر الصورة، بل إن البعض يعتقد أن عامل العرض والطلب لم يعد له التأثير السابق في السوق.
من ناحية أخرى، فهناك بُعد ثان للعولمة، ويظهر هذا في قيادة الدول الخليجية للنشاط الهادف للحصول على أسهم في أصول بعض الشركات الغربية الكبرى ذات الأسماء اللامعة في مختلف ميادين العمل الاقتصادي. وهناك أرقام تقديرية أنه خلال السنوات الثلاث الماضية أنفقت الدول الخليجية وحدها ما يزيد على 124 مليار دولار لتملك أصول في هذه الشركات.
على أن أهم متغير هذه المرة أن عائدات النفط لم تأت بصورة أساسية من الدول الغربية، وإنما من الساحة الآسيوية، التي أصبحت السوق الرئيسية في الطلب على النفط. ولهذا أيضا تبعاته الجيوبوليتيكية. فدول مثل الصين والهند تبرز كصاحبة أكبر حصة في حجم النمو في الطلب، ودولة مثل روسيا منتج ومصدر رئيسي للنفط تبرز على الساحة الدولية لاعبا لا يمكن تجاهله، في الوقت الذي تتراجع فيه حصة الدول الغربية سواء في الاستهلاك أو الإنتاج.
الصدمة الأولى تميزت بحالة من المواجهة بين الدول الغربية وشركاتها التي كانت تسيطر على صناعة النفط من المنبع إلى المصب، وهو غير الحال السائد حاليا بين كبار اللاعبين على الساحة النفطية، خاصة أن الشركات الآسيوية في غالبيتها أدوات حكومية، الأمر الذي يسهل من تعاملها مع المنتجين عربا أو غير عرب. كما أن كبار المستهلكين الآسيويين يرون أنفسهم أقرب إلى العالم الثالث إن لم يكونوا ضمنه، ولهذا فإن احتمالات نجاح حوار بين المنتجين والمستهلكين هذه المرة تبدو أفضل.
لكن تبقى دائما تلك الفجوة بين الآمال وواقع الحال، وهي فجوة تتسع باستمرار بسبب تضخم حجم الملفات التي تحتاج إلى علاج، وعلى رأسها قضية التغير المناخي التي فرضت نفسها في الفترة الأخيرة.