من حقائق العلم
إن من الحقائق التي قررها أعيان الفقهاء والأصوليين ما دُرج على التعبير عنه بقولهم (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، وهذه القاعدة وإن كانت تساق في كثير من الأحيان في مقام مفصل أحكام الشريعة إلا أنه ينبغي أن يصار إليها في مقام المنهجية العلمية أيضا، ومن أخص ذلك إدراك وتصور العلم الشرعي الذي يقصد إلى تحصيله، والناظر في الكتاب والسنة يرى أن العلم الشرعي الذي ورد الحث والثناء على المشتغل به هو العلم المورث للمعرفة والتعبد لله عز وجل، فالمقصد الأول من طلب الشارع لتحصيل هذا العلم هو كونه موجبا للتعبد لله عز وجل، وكل ما يحتف به من الاعتبارات الأخرى إنما هي على سبيل التبع.
ولذا فأنت تقرأ قول الله تعالى: ?فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك?. وقوله: ?كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد?. وقوله: ?إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص?.
ففي هذه الآيات ونحوها بيان لحقيقة العلم الشرعي الذي يطلب تحصيله، وفي الجملة فالعلم من حيث أصله خير من الجهل فهو مقصود أصلا لكل عاقل، ولو لم يكن في بيان فضل العلم إلا أن كل إنسان ينأى بنفسه أن ينسب إلى الجهل لكفى، ولكن المقصود هنا بيان مقام الكمال في طلب العلم وأخص ذلك أن يكون هذا العلم موجبا لتقوى الله عز وجل.
ولذا فأنت ترى أن الله سبحانه نعى حال أهل الكتاب مع ما كانوا عليه من العلم وذلك لتأخر مقام الاستجابة عندهم، قال تعالى: ?وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم?. وقال سبحانه: ?الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون?.
وإدراك ما سبق يحصل عنه منهجية واضحة في حقيقة العلم الشرعي، فلا يصار إلى الاعتناء بنادر المسائل وشاذها، أو بغرائب الفروع وتشقيقاتها التي هي من الترف الفقهي الذي قصد إليه بعض متأخري الفقهاء قبل إدراك أصول المسائل التي يدور عليها عمل المكلفين، وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). وليس يقع عن هذا القول أن العلم وسيلة كما أطلقه بعض النظار وأهل المقامات والأحوال، بل التحقيق أن العلم مقام من الشرف والغاية بذاته، وإن كان الموصوف بهذا ما استلزم العمل، والله الهادي.