البطالة مرة أخرى هي سبب كل الجرائم
كان آخر مقال كتبته عن مشكلة البطالة بعنوان "البطالة ثم البطالة أكبر دافع للإجرام والفساد", نشر بتاريخ 16/3/1429هـ, وكنت قد عقدت العزم على أن أكتفي بما قلته, لاعتقادي أنني قلت كل ما لدي, وهو ما يبعدني عن مظنة اللوم أمام نفسي, من جهة, ومن الجهة الأخرى, فلأنني وصلت إلى قناعة بأن لا أحد يريد أن يكون مسؤولا عن ظهور هذه المشكلة, ناهيك عن تضخمها واستفحالها, حتى لا تقع عليه تبعات البحث عن حلول لها, بيد أن هاجس البطالة لم يبرح مخيلتي وأنا أقلب الصحف المحلية صباح مساء, وأتأمل مختلف الجرائم التي تكشفها السلطات الأمنية, من سرقات, ترويج وتعاطي مخدرات وممنوعات, وما يجره ذلك من مشكلات أخرى كالتعدي على الحرمات والقتل والانتحار. ولا يساورني شك في أن البطالة تقف سببا رئيسا لذلك كله طالما كان هناك ما يقرب من نصف مليون عاطل (بالضبط 454 ألفا كما تقول الإحصاءات المتحفظة ـ صحيفة "الحياة" 8/4/1429هـ) تعترف الحكومة بوجودهم دون عمل, ولو فرض أن ربعهم فقط هم الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم اليومية إلى الإنفاق, فلنا أن نتخيل كم جريمة ستدفعهم ظروفهم لارتكابها؟!
وما دعاني إلى معاودة الطرق على هذه المشكلة هو ما دار أخيرا في جلسات الحوار الفكري الوطني المنعقدة في مدينة بريدة ضمن عنوان "واقع العمل ومطالب المجتمع" حول مشكلة البطالة, من مناقشات ساخنة, وتشخيص للمشكلة سيذهب كما ذهب غيره في حوارات سابقة أدراج الرياح, وتبقى المشكلة. لكن الجديد في الأمر هو ما لوحظ من تطور في موقف وزارة العمل تجاه الاعتراف بوجود المشكلة, وإمكانية حلها حينما ذكر وزيرها "أنه كان يشعر وكأنه يتجرع السم وهو يوقع على تأشيرات وصل عددها إلى 1.7 مليون تأشيرة (العام الماضي فقط) ولو أننا استمررنا في تخفيض الاستقدام لمدة ستة أشهر لما بقي في المملكة أي عاطل أو عاطلة" (صحيفة "الوطن" 18/4/1429هـ). أقول .. تطور في الموقف لأنه يأتي بعد وقت كانت الوزارة تشكك في قدرة أبنائنا من حملة الثانوية العامة, على دخول سوق العمل, وهو تطور لأن الوزارة ترى إمكانية الحل تلوح أمامها متمثلة في تخفيض الاستقدام لمدة ستة أشهر فقط, وهو أمر تملكه دون غيرها, وهو تطور أيضا لأنه يشعرنا بأن ضمائر المسؤولين في الوزارة ما زالت متيقظة توحي لهم بأنهم يرتكبون الخطأ (وهو أقل من تجرع السم) وهم يوقعون القوائم الطويلة للتأشيرات, ويدفعنا ذلك كله إلى الأمل بأن الوزارة ستتبنى الحل الذي تملكه!
لقد قلنا الكثير عن البطالة, ورغم ذلك لم نيأس, وها هي الوزارة تطمئننا بوجود الحل في يدها, وها نحن ننتظر, ونتعاون معها في تقديم خلاصة ما يراه رجل الشارع متعلقا بالمشكلة.
المشكلة وليدة عامل واحد
إن التوسع في الاستقدام هو السبب في وجود المشكلة, وهي الحقيقة التي اعترفت بها الوزارة أخيرا, فلم يكن عدم التأهيل مشكلة, طالما يجد المؤهل وغير المؤهل من الأجانب عملا لدينا, وليس ما ينسب إلى المواطن من عدم رغبة وحب في العمل مشكلة, لأن ذلك تدحضه الشواهد في ميادين العمل, ولكن هناك حقيقة تقول إنه إذا ترك لصاحب العمل أن يختار فسيفضل الأجنبي لأنه أقل تكلفة وأكثر طاعة وخضوعا.
أين ضريبة الوطن؟!
ليست هناك بيئة تمارس فيها التجارة والأعمال وتحظى بدعم الدولة من تقديم التسهيلات والقروض المجانية, إلى انعدام الضرائب, مثلما هي البيئة في المملكة, فأين هي ضريبة الوطن في توظيف الحد الأدنى من أبنائه؟ أتمنى من أحد أن يزور مكاتب مديري الشركات ورجال الأعمال ليكتشف أن كل الأعمال, حتى الإدارية والسكرتارية يستحوذ عليها المستقدمون, ولعل هذا يكفي لتبيان إلى أي حد يبلغ العزوف عن توظيف المواطن في بلده, وهو ما دعاه إلى البحث عن العمل خارجه مرغما.
الحل في قطاع التجزئة التجاري
لو كان لدينا مليون عاطل, وليس نصف مليون فقط, الذي قيل إنه يمثل طالبي العمل, فهناك قطاع واحد هو قطاع التجزئة التجاري, وما فيه من وظائف, من مدير إلى مسوق إلى بائع سيستوعبهم دون عناء البحث عن مجالات أخرى, وهو قطاع يتميز بأن وظائفه لا تتطلب مهارات عالية, ويسهل التدرب عليها في فترة وجيزة, فضلا عن أنها تستوعب الكل, من الجامعي إلىحامل الابتدائية, فقط نحتاج إلى إخلاص النية وعقد العزيمة وعدم التراجع, وهذا الحل, إلى جانب تخفيض الاستقدام, كما تنوي الوزارة, كفيل بتوظيف كل طالبي العمل, ومن العيب أن يكون لدينا عاطلون والبلد تكتظ بمن هب ودب من كل أصقاع العالم.
الحل يجب أن يشمل العنصر النسائي
عندما أتكلم عن البطالة فإنني أعني العنصرين, بل أرى أن الجانب النسائي من المشكلة يمثل الوجه القائم منها, ما دام عدد العاطلات يفوق عدد العاطلين أضعافا, وما دمنا نغلق كل باب يفتح لتوفير فرص العمل لهن بحجة سد الذرائع, حتى سددنا عليهن أبواب الرزق كلها, وفتحنا ذرائع أخرى قد يتسلل منها من الفساد أكثر مما نخاف منه. فأي ذريعة سنسدها حين نعطي الفرصة للفتاة لكي تقف أمام شاب وسيم, قد لا يكون معها غيره في المحل, ليقلب أمامها الملابس الداخلية ويقترح عليها ما يراه (لائقا) منها؟ أو يستعرض معها أنواع الروائح المثيرة للغرائز؟ بل ما الذريعة التي ستفتح عندما يكون البائع, في هذه الحالة امرأة مثلها, في محل يقتصر دخوله على النساء؟
باختصار مشكلة البطالة مشكلة متعدية تجلب الشرور وتقود إلى الفجور وتدفع إلى ارتكاب المحظور, وما لم ننتبه, قبل فوات الأوان, فسيغرقنا الطوفان. والله من وراء القصد.