الوقود الحيوي...جريمة ضد الإنسانية!
للأسف أصبحت بعض القيم الإنسانية اليوم في العالم المتحضر مفرغة من محتواها، ولم تعد إلا مجرد شعارات يتم تسويقها متى كانت محققة لمصلحة هذه الدولة أو تلك، وبهذا أصبحت تلك القيم الإنسانية الجميلة شعاراً، ولم تعد سلوكاً أو ممارسة، ومن هنا فإنه يجب كشف هذه الشعارات، وبيان زيف هذه اللافتات، كما ينبغي وضع النقاط على الحروف، وهذا ما انبرى له (جان زيغلر) المقرر الخاص للأمم المتحدة للحق في الغذاء، حيث كشف جانباً من جوانب انتهاك حقوق الإنسان في بعض البلاد الغربية التي تنادي بحقوق الإنسان صباحاً ومساء، وذلك أنه صرح لإذاعة ألمانية: أن الإنتاج الكثيف للوقود الحيوي كبديل عن البنزين يمثل جريمة من جرائم هذا العصر؛ وذلك بسبب تأثيره في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم، حيث إن هذا الوقود يصنع من الذرة والقمح وقصب السكر!!، فقال عبر أثير (بايريشر راندفانك):"إن صنع الوقود الحيوي يمثل اليوم جريمة ضد الإنسانية!!!" وقد نشر هذا التصريح في عدد من وسائل الإعلام المختلفة، كما أشار موقع التلفزيون الألماني على الإنترنت"دويتشه فيله": إلى أن الخبراء يقدرون بأن إنتاج 50 لترا من الوقود الحيوي يحتاج إلى 350 كيلوجراماً من الذرة، مشيرين إلى أن هذه الكمية تكون كافية لتغذية طفل لمدة سنة كاملة!!!
ومع هذه التصريحات الرسمية في وسائل الإعلام الغربية، هل نجبن نحن العرب عن التصريح بمثل هذه الكلمة أمام هذه الدول العابثة بمستقبل الشعوب، والمستهترة بلقمة عيش الفقراء؟!! وإن تعجب، فعجب من تصريح مسئولة كبيرة في إحدى الدول الغربية، التي يمثل إنتاجها الأكبر للوقود الحيوي بين الدول الأوروبية، حيث برأت ساحة بلادها من هذه الجريمة، ولم تعتبر إنتاج الوقود الحيوي مؤثراً فاعلاً في ارتفاع أسعار الغذاء، وإنما ألقت بالتهمة على البطون الجائعة، التي لم تجد إلا لقمة الأرز أو الذرة لتسد جوعتها، حيث أنحت باللائمة على البلدان النامية، وعلى أسلوبها الغذائي الخاطئ، وعلى السياسات الزراعية السيئة، واعتبرتها المسئول الوحيد عن ارتفاع أسعار الغذاء، وليس إنتاج الوقود الحيوي!! تقول ذلك في الوقت الذي يطل فيه الإعلام الشرقي والغربي بتصريحات عدة من جهات مسئولة- كمنظمة الغذاء العالمية- بأن الوقود الحيوي أحد الأسباب الرئيسية في غلاء أسعار الغذاء في العالم!! فيا لله العجب! هل تلام البطون الجائعة التي لا تنعم بأنواع المأكولات الغربية، وأشكال الوجبات السريعة والبطيئة، ولا تلام السياسات المخالفة لحقوق الإنسان، فتجيَّر آلاف الأراضي الزراعية الخاصة بمأكول الآدمي، لصالح الوقود الحيوي؛ لتحويلها من أراضٍ لإطعام الآدمي إلى أراضٍ زراعية لإطعام السيارة والطائرة بالبنزين والديزل...؟!!
إن هذه الممارسات الرأسمالية تذكِّر بشريعة الغاب التي يأكل فيها القوي الضعيف، فأين هذه الشريعة الرأسمالية، التي لا تفكر إلا في المال، وفي المصالح الذاتية، أين هذه الشريعة من شريعة الإسلام، التي لا تحترم الإنسان فقط، بل تحترم كل نفس موجودة على ظهر الأرض، حتى الحيوان، بل والجن؟ - وهذا الجنس اللطيف ليس له منظمات حقوقية عند الغرب كالحيوان وإن كان يؤمن بوجوده كما يدل على ذلك سوق السحرة الرائج في فرنسا وغيرها، إلا أن الإسلام حفظ له حقوقه، كما حفظ حقوق الحيوان!!- ولنقف عند هذه الشريعة الإسلامية لنرى كيف تحترم طعام الإنسان، والحيوان، والجن:
فبالنسبة لطعام الإنسان، فقد جاءت النصوص الشرعية الكثيرة بوجوب إطعام الجائع والفقير والمسكين، وبفضل الإحسان إلى الضيف والجار وابن السبيل، بل جاء الهدي النبوي بدقائق آداب الأكل والشرب، كالنهي عن الشرب من فم السقاء لئلا يقذره الشارب على غيره، ومثله النهي عن النفخ في الإناء لئلا يعافه غيره، ممن قد يحتاج إلى الشرب منه، وكأدب الأكل مما يلي الآكل...إلخ، فتعاليم الإسلام لم تقف عند حد إطعام الجائع والمحتاج، بل لقَّنت المسلم منذ نعومة أظفاره آداب الطعام والشراب، وهو أسلوب تثقيفي يحدو بالمسلم إلى احترام الطعام والشراب، واحترام الآدمي الذي يشاركه اللقمة والشربة، فكيف يرضى الإسلام بممارسات من شأنها أن تلحق الضرر بالفقراء والضعفاء في مأكلهم ومشربهم، عياذاً بالله من ذلك.
وبالنسبة لطعام الحيوان، فقد دخلت امرأة النار في هرة منعتها الطعام والشراب، كما جاء في صحيح البخاري، ومسلم- واللفظ له- من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض!!) فليست الجريمة في نظر الإسلام أن تسهم في تجويع الفقراء فقط، بل الجريمة أيضاً أن تعرِّض حيواناً للموت، فتحبس عنه الطعام والشراب، حتى يموت جوعا.
وبالنسبة لطعام الجن، فقد جاء في سنن الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن) فانظر كيف احترم الإسلام طعام الجني، حيث نهي الإنسي إذا أراد الاستجمار أن يستجمر بالروث والعظام؛ لأنهما من طعامه؛ محافظة على حقه الطبيعي في الغذاء، وإذا كان هذا هو موقف الإسلام من غذاء الجني، فما موقف الإسلام إذاً ممن ينتج من غذاء الإنسي وقوداً لوسائل النقل؟!! الإجابة عن هذا واضحة كالشمس في رائعة النهار، وبهذا يقف المنصف وقفة إكبار وإجلال لهذه التعاليم الإلهية، التي تكرس في المسلم شعوره بالمسئولية تجاه كل نفس حية، وكون النفط هو المصدر الوحيد لإنتاج الطاقة لا يعني أبداً أن يتخلى الإنسان عن إنسانيته وعن أخلاقه، وأن يسهم في تقليل الغذاء في العالم، أو في رفع أسعاره إلى أرقام خيالية، فالإنسان هو أولاً، وقبل كل شيء، ثم إن كل ما في الكون هو مسخر له، أما أن تنعكس الآية، فيسخر الإنسان للكون، وللمادة، فهذه انتكاسة كبرى تذكر بانتكاسة الاستنساخ، وعبث العلم الحديث بمكونات الخلق!!