أساطير الأولين
هناك مَن يبخس الأساطير حقها، يعتبرها حثالة فكر رث بائد لا قيمة لها ولا معنى لوجودها في عصر العلم والعقل وحضارة التقنية.. وأنها مجرد تحريف وأخيلة فجة لأجدادنا الجهلة الموغلين في القدم.
الشيء الأكيد أن هذا التصور جناية فادحة بحق الأسطورة وحق أجدادنا وحقنا نحن أيضا. فالأساطير ليست، في الواقع، إلا حقائق فقدت السياق المنطقي والدعامات المادية وبقي منها الجوهر المشع للدلالة على مكابدات البشر حينذاك وردود أفعالهم تجاه علاقاتهم ببعض وبالمحيط البيئي الذي كانوا يشغلونه بكل ما يكتنفه من أسرار وغوامض الوجود سواء على الأرض أو في السماء.
الأساطير مدونات صورية شفوية قبض بها الإنسان على مشاهد عصره وأحداثه ثم تدفقت عبر أفواه الرواة الذين ما كان بوسعهم أن يكبحوا جماح تأجج مشاعرهم بنشوة ما يعاقرونه من رجع وقعها في نفوسهم فأسبغوا على ظواهر عوالمهم العلوية والسفلية قدرات وأفعالا خارقة تعبر في حقيقتها عما يجيش في أعماقهم من تطلعات وهواجس هدفها اللا شعوري إحكام السيطرة على ما يرونه وما يسمعونه أو ما يحسون به من الأدق وحتى الأضخم وإعطاؤها أسماء وصفات وأدواراً.
وإذا أخذنا أساطير اليونان، بالذات، فسوف نجدها رموزاً مكثفة الدلالة تذهلك باحتفاظها على معانيها إلى اليوم، ودقة رصدها وملاحظاتها وتفسيراتها الموحية المقنعة متى ما نزعنا عنها حكمنا عليها بأنها خرافة وتعاملنا معها بتأمل. وإذا شئت دليلاً على ذلك، فإليك كل مفردات التقنية والعلم وأطروحات علوم النفس، الاجتماع، الأناسة، الاتصال، الثقافة، ومصطلحات المعارف والفلسفات، تطبيقية كانت أو نظرية، لسوف يقابلك في كل منعرج وفي كل طريق جذر لاتيني أو يوناني قديم يسحبك إلى ما قبل "آنازاجورس" و"ديموقريطس"، ويغمرك في صخب ساحات أثينا ومدارسها.. "جذر أسطوري" لا فكاك منه ولا سبيل لفهم ما يعنيه هذا الشيء أو ذاك علمياً أو فكرياً أو فلسفياً دون الرجوع إلى أصل الأسطورة.. حينها لا تستطيع منع نفسك من السباحة في بحيرة إغراء الأسطورة نفسها مجدفاً في القراءة، موغلاً أكثر فأكثر، منجذباً دون مقاومة، بل بدفع للذات، كما لو أن مغناطيساً كونياً هائلاً يشدك ويداً خرافية تدفعك!!
الأسطورة، ابنة الخيال، الذي قال عنه العبقري ألبرت آينشتاين: بأنه أهم من الحقيقة، بل الأسطورة أبقى من الحقيقة كما قال بيكاسو، وقد كانت الأساطير بالأساس سفر الرؤيا لأجدادنا وكتاب تجلياتهم. فكل إنجاز تم (حملاً وولادة) كان من رحم الأسطورة فتجسد شكلاً أو لوناً أو نغمة، كلمات أو رموزا، خطوطا أو أرقاما.. وليست أقلام الخيال العلمي اليوم سوى "براشيم" من أسفار الأساطير أحسن المخرجون وكتبة السيناريو التلصص عليها ثم أضافوا إليها شيئاً من بهارات العصر، ورغم ذلك لم يصعد إنجاز صناعة أفلام الخيال العلمي إلى قمة التحليق والإبداع المدهشين للكائنات الخارقة والأجواء المذهلة التي تحفل بها مثلاً عوالم "الإلياذة" و"الأوديسا" و"جلجاش" و"المهابهاراتا" وملاحم أخرى بينها رائعة حضارتنا "ألف ليلة وليلة".
وبعد.. هل هذا انتصار للأسطورة ضد العلم والعقل؟ هل هذه دعوة مفتوحة للتطرف مع هلوسة الخيال لهجر الواقع؟ بالتأكيد: لا.. لكن هناك طلاق ذهني بين مكتسبات حضارتنا وإنجازات عصرنا وبين معرفة الإحالة التاريخية العتيقة الأصلية لما تعنيه تلك المكتسبات.. ونحن نحرم أنفسنا من متعة ذلك المصدر الذي نهضت عليه حضارة الحداثة الغربية، نفصلها عن سباقاتها، نعيش غربتين، غربة المعنى وغربة المنهج، لا نمسك بالمنهج الذي أنتج الحداثة ثم العولمة ويفلت منا المعنى، فمعظم المسميات، المصطلحات، الرموز التي وضعها الغرب لهذه الآلة أو لأجزائها أو لعناصر هذه النظرية أو تلك الفلسفة هي من معجم الأساطير، ولعل أبرز أسباب فشل الحداثة وما بعدها في بلداننا مرده لأننا نأخذ العرض ونترك الجوهر، نأخذ الإطار ونترك المحتوى، فصار حال العرب والأعراب كمن يسير دون دليل سياحي في محيط لا يفقه لغته.... أمة خارج التاريخ، لا هم في جسارة عقول أهلهم الذين أنتجوا حضارة كانت إحدى زهراتها أساطير "ألف ليلة وليلة" ولا هم منحازون لأساطير الحداثة والعولمة!!