السعودة: القضية التي ما زالت تراوح مكانها

السعودة: القضية التي ما زالت تراوح مكانها

[email protected]

"في ظل الأجواء الغائمة التي تبدو للوهلة الأولى غير مشجعة على أي جهد بشري، تطوف هذه الزاوية كل أسبوع ببقاع متفرقة دون أن تتقيد بحدود جغرافية لترصد اختلالات متنوعة تدرسها وتعالجها أملا في أن يكون الخلل مفتاحا للصواب".

على الرغم من خطورة التأثيرات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية الناجمة عن ارتفاع معدل العمالة الأجنبية في سوق العمل السعودية، وعلى الرغم من الاهتمام الشديد بهذا الموضوع على المستويات الرسمية والأكاديمية، فإن قضية إحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية أو ما يسمى "السعودة " ما زالت قضية تراوح مكانها منذ سنوات عديدة. فما زالت نسبة إسهام القوى العاملة الوطنية في سوق العمل السعودية متدنيةً للغاية، وما زالت نسبة البطالة بين العمالة السعودية عاليةً جدا. أمام هذا الواقع الخطير تتعرض قضية السعودة في المرحلة الراهنة لمجموعتين من الضغوط، إحداهما تطالب بضرورة تحمل الدولة مسؤولية إيجاد فرص وظيفية لهؤلاء العاطلين عن العمل، والأخرى تدفع بهذه القضية إلى الوجهة المعاكسة, أي إلى القطاع الخاص وضرورة تحمله المسؤولية بمفرده. وحجج كل طرف في ذلك كثيرة ومتعددة، والحقيقة أن هناك مجموعة من المعوقات - من وجهة نظر المجموعتين - تقف وراء هذا البطء في الوصول إلى الأهداف المرجوة. من أهم هذه المعوقات ما يلي:
ـ عدم قدرة العمالة الوطنية على تحمل أعباء ومسؤوليات الوظائف المختلفة في القطاع الخاص لانخفاض مستواها التأهيلي والتدريبي. من هنا تعلو الصيحات الواحدة تلو الأخرى بضرورة تركيز الجهود الرسمية نحو تدريب هذه العمالة وتأهيلها بشكل جيد بحيث يمكن للعامل السعودي تسلم عمله دون تردد؛ وبالتالي أداء هذا العمل بكفاءة وفاعلية عاليتين.
ـ عدم وجود حد أدنى للأجور يضمن للعامل السعودي كرامة العيش, وعليه ينادي الكثيرون بضرورة وضع حد أدنى لأجور العمالة السعودية في القطاع الخاص.
ـ عدم إقبال القطاع الخاص على تعيين العمالة السعودية بحجة أن العامل السعودي يتصف بعدم الاستقرار وسرعة تنقله من وظيفة إلى أخرى في فترة زمنية وجيزة.
ـ طبيعة التنظيم المؤسس لمنشآت القطاع الخاص السعودي المعتمد وبشكل كبير على المنشآت الفردية الصغيرة. تلك المنشآت بسبب ضآلة رأسمالها تحجم بشكل كبير عن توظيف العمالة الوطنية، وتعتمد بشكل ملحوظ على العمالة الوافدة.
أمام هذه المعوقات طرحت العديد من الحلول في كثير من المحافل الرسمية وغير الرسمية، ومع ذلك لم ننجح في إيجاد حل جذري للمشكلة. إن الأمر يتطلب تحسس المشكلة بجدية أكبر والعمل على إيجاد حلول أكثر واقعية تسهم بطريقة فاعلة في الإسراع بخطى هذه القضية المصيرية. إن دعوى البعض بأن العمالة السعودية ستعمل على الإخلال بإنتاجية العمل وكفاءته في القطاع الخاص دعوى مرفوضة تمامًا، ولا يمكن قبولها أو تبريرها بأي حال من الأحوال. فلو أحسن القطاع الخاص اختيار العمالة السعودية وتدريبها لأمكنه أن يحقق الكثير من النتائج الإيجابية، ولنا في شركة أرامكو السعودية مثالا يحتذى. إن مشكلة السعودة - من وجهة نظرنا - مشكلة تفاوضية تتمثل في تمسك كل طرف من أطراف عملية السعودة بموقفه. فالطرف الأول الذي يمثله الأجهزة الرسمية المختلفة في الدولة المسؤولة عن توطين القوى العاملة يريد عمالة مواطنة كبيرة محل العمالة الأجنبية الوافدة. والطرف الثاني الذي يمثله القطاع الخاص يشير إلى ارتفاع تكاليف العمالة السعودية وعدم استقرارها وضعف مستواها التدريبي والتأهيلى. والضحية هو العامل السعودي الذي يقف موقف المتفرج الذي لا يفهم سوى أن السعودة مطلب وطني ملح يجب الإيمان به والعمل على تطبيقه, ولا سيما مع التزايد المستمر في مخرجات التعليم والتدريب. عندئذ ومن أجل أن تتحقق الأماني، لا بد من استيعاب البعد التفاوضي لهذه القضية من خلال محاولة كلا الطرفين الحكومي والخاص فهم العوامل المختلفة النفسية والاجتماعية والمادية التي تعوق عملية الوصول إلى اتفاق مرض حول قضية مركزية ذات علاقة مباشرة بنمو الاقتصاد السعودي وتطوره. إن فهم هذه العوامل واستيعابها سيؤدي إلى شق الطريق نحو تحقيق مصالح الدولة من جانب ومصالح القطاع الخاص من جانب آخر. إن المخاطر التي تواجهها الدولة من قضية ازدياد العمالة الأجنبية سواء المخاطر الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأمنية مخاطر لا يمكن للدولة بمفردها أن تتحملها، لذا لا بد من التعاون والتنسيق بين جميع الأطراف. كما أن القطاع الخاص ورجال الأعمال في حاجة ماسة إلى الشباب العاملين لا العاطلين ولا حياة لهم دون هذه الفئة، فالشباب هم السوق التي تشتري وتستهلك ما ينتجه القطاع الخاص. وإذا أصبح هؤلاء الشباب عاطلين وغير قادرين على شراء ما يحتاجون إليه بسبب الفقر فلن يجد القطاع الخاص سوقاً يبيع فيها ما ينتج، وسيخسر الجميع. إن ما نراه في كثير من الفعاليات والمؤتمرات المنعقدة حول هذه القضية هو تمسك كل طرف من أطراف تلك القضية بمواقفه وعدم التنازل عنها والنظر إلى القضية على أنها غالب ومغلوب، متناسين بقصد أو من غير قصد أن هناك بديلا ثالثا للحل يتمثل في اشتراك كل الأطراف في حل المشكلة. هذا البديل ليس تمسكا كاملا أو تنازلا كاملا، بل مزيجا من الاثنين. وبدلا من تبادل الاتهامات يجلس كل طرف جنباً إلى جنب في مواجهة مشكلة مشتركة تدور حول المصالح، وليس المواقف. فيبدأ كل طرف، الدولة ـ بمؤسساتها المختلفة ـ والقطاع الخاص ـ بكل فعالياته ـ بتحديد مصالحة واهتماماته وحاجاته ومخاوفه ورغباته، ومن ثم الاتفاق حول البحث في الخيارات الممكنة لتحقيق تلك المصالح والمطالب. كل ذلك من أجل الوصول إلى حل مرضٍ ومقبول لكل الأطراف. بهذا الأسلوب، وهذا الأسلوب فقط من الحوار ستتخذ قضية السعودة بعدًا خاصًا. فالكل على مختلف المستويات الحكومية والخاصة سيتفاعل مع هذه القضية، وربما تشهد انفراجًا جديدًا وتوضع على الطريق الصحيحة للعلاج. إن هذا الأسلوب من العلاج وإن أيدته الحجج العلمية وأكدته الحاجات الاقتصادية لا يكف فيه الاقتناع العقلي المحض، بل لا بد من أن يصدر عن إيمان عميق وراسخ بضرورة حل هذه القضية. هذا الإيمان يجب أن يستمد قوته من مشاعر جميع الأطراف المختلفة ومواقفهم واتجاهاتهم، وليس من طرف واحد دون الآخر.

الأكثر قراءة