ألهذا الحد ابتعدنا عن مبادئ الدين في المعاملات؟!
لفت نظري خبر نشرته بعض الصحف المحلية خلال الأسبوع الماضي يقول إن هناك 600 ألف شخص ضمن القائمة السوداء لمكاتب تأجير السيارات في جدة، البالغ عددها 600 مكتب (صحيفة "الوطن" 1/4/1429هـ)، أي أن هناك ما معدله ألف شخص من المتعاملين مع كل مكتب لا يلتزمون بسداد ما يستحق عليهم من إيجارات، ويلاحظ أن هذه الإحصائية خاصة بمدينة جدة وحدها، لكنه يمكن القياس عليها بالنسبة للمدن الأخرى، لمعرفة إلى أي مدى تصل هذه الظاهرة الغريبة! وهو ما دفعني إلى مقابلة بعض المسؤولين في بعض مكاتب تأجير السيارات في مدينة الرياض، للاطلاع على تفاصيل أكثر عن هذه الظاهرة، والاستماع إلى وجهة نظرهم حول المشكلة، وما يرونه من مقترحات لحلها، أو على الأقل محاصرتها.
فمن حيث أساليب التلاعب ذكروا لي أنها تشمل الهروب بالسيارة واضطرارهم إلى التعميم عنها، وفصل عداد المسافات لكيلا تظهر المسافة الحقيقية التي تقطعها السيارة، وإبدال الإطارات بما هو أقل منها، وعدم دفع الأجرة للأيام الزائدة عن مدة الاستئجار، والتفحيط بالسيارة حتى تتلف إطاراتها وأجزاء منها، وتسليم السيارة لشخص آخر، والاستئجار ببطاقات مزورة.
ومن حيث الصفة الغالبة على من يقومون بهذه الاحتيالات ذكروا أن الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 20 و30 سنة هم الغالبية، وأما من حيث الجنسية فمن المؤسف أن الأغلبية فيمن يقومون بهذه التصرفات هم مواطنون!
هذا ملخص لما وقفت عليه من أوجه الظاهرة وآثارها، وهي ظاهرة غريبة ومؤسفة في مجتمع يقال عنه، أو يقول هو عن نفسه إنه أكثر المجتمعات تمسكا بمبادئ الإسلام ومثله، في حين يمارس أبناؤه أفعالا هي أبعد ما تكون عن ذلك! بل هي أفعال تجرّمها قواعد الدين، قبل أن تجرّمها الأنظمة، لأنها تندرج ضمن مفهوم السرقة، والاستيلاء على أموال الغير بالباطل، والتزوير والغش والتدليس، وهي امتداد لظواهر أخرى برزت في المجتمع خلال العقود الأخيرة، وازداد انتشارها سنة بعد أخرى حتى أصبحت على ما هي عليه، مثل ظاهرة مماطلة المستأجرين للمنازل، وعدم تسديد ما يستحق عليهم من إيجارات واستهلاك خدمات كالمياه والكهرباء، ومعاناة المؤجرين جراء ذلك، وظاهرة التقسيط وبالذات في مجال السيارات، وعدم التزام المشترين بسداد ما يستحق عليهم من أقساط في وقتها! وكذلك ظاهرة تعثر الكثير من القروض التي تقدم من مختلف جهات التمويل، بسبب عدم قدرة المقترضين، أو عدم رغبتهم في موالاة تسديد القروض.
وكل هذه الظواهر لها علاقة بالاقتصاد، فهي تعيق التنمية والاستثمار، وتجعل المستثمرين يترددون في اقتحام مجالات يعرفون سلفا ما يكتنفها من عوائق، وما قد تسببه لهم من خسائر، كما أنها، أي الظواهر، تحد من إقبال الأفراد على الاستفادة من هذه المشاريع لارتفاع تكلفتها، وتعقيد شروطها بسبب الفاقد الذي تتعرض له، وما يؤول إليه الأمر في النهاية من أن عبث الصغار، كما يقال، يتحمله الكبار، ومماطلة الأدعياء يدفع ثمنها الأوفياء، أو بمعنى آخر، فإن الفاقد في هذا النوع من المشاريع يضاف، تحوّطا، إلى المقبل منها، وهذا بطبيعة الحال يحد من إقبال أصحاب الحاجة عليها!
والسؤال الكبير: إلى أين نسير؟! وأي وضع سيئ سيكون عليه الحال بعد أجيال؟! طالما أن الأمر يزداد سوءا؟! والإجابة يمكن استنباطها من داخل الأزمة، فلم تكن هذه حالنا بالأمس؟ أي أننا كنا أفضل وفاء للعهود والتزاما بالعقود، وأن أيا من هذه الظواهر لم تكن وليدة اليوم، لكنها لم تكن بالأمس كما هي عليه اليوم، ومن المؤكد أنه لن يكون الحال في الغد أفضل مما هو عليه الآن، فالحالة الراهنة يسودها ما ينسب عادة إلى شريعة الغاب، فالقوي يأكل الضعيف، وكل يحاول الاستيلاء على ما ليس له، ويجحد الآخر، ويماطل ويتلاعب، وبدا الأمر وكأنه ليس هناك إلا ناهب أو منهوب! فخلال تعاملاتنا اليومية لم نعد نلمح غير الاستغلال والجشع، والغش والتدليس والتلاعب، وقد ضاقت أقسام الشرطة والمحاكم والإمارات واللجان والدوائر القضائية، عن استيعاب القضايا واللاجئين إليها، وامتدت القضايا إلى سنوات بل عقود، حتى سئم البعض الملاحقة، وآثر ترك حقه مكرها!
القضية كبيرة، ولا يكفيها مقال، والنفوس اعتراها ما أبعدها عن الدين الحق المتمثل في قول رسولنا الكريم "الدين المعاملة، كررها ثلاثا"، وهو ما أصبحنا ندعيه مظهرا، وننسف مبادئه مخبرا، وأصبح من كنا نظنهم الأعداء لديننا في الغرب، يخجلوننا في التمسك بمبادئه أكثر مما نفعل!
اللهم الطف بعبادك الضعفاء، واحمهم من ظلم الأقوياء، وهيئ لنا ما يوقظ الضمائر، وينير البصائر، ويعيدنا إلى الصواب، قبل أن يحل بنا العقاب!
والله من وراء القصد.