رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الاقتصاد الوحشي

عالم السلالات البشرية والإناسة الفرنسي العتيد (كلود ليفي شتراوس) له كتاب مشهور عنوانه (الفكر البري) أو (الفكر الوحشي)، ويُقصد به ذلك النمط من السلوك والعادات والثقافات الشفوية التي تحدرت إلينا من غابر الأزمنة كخبرات معرفية، الأمر نفسه يمكن إسقاطه على الاقتصاد في شكله الفج العشوائي اللامخطط، الذي غالبا ما يسم حياة معظم الناس في العالم الثالث.. فهم يقيمون حياتهم وفقا لنظام (الاقتصاد الوحشي)، بمعنى التعويل على الرغبة الشخصية الخاضعة في مجمل الأحوال لإملاءات المزاج والحاجة الراهنة دون اعتبار لمستقبل الأيام.
الاقتصاد الوحشي، يعني أيضا توافقا، بل اتكالا على معطيات تتحكم فيها الظروف ويخضع الناس أمرهم لها بعيدا عن إيجاد وسيلة ما لاستثمار الظروف المواتية لصالح الظروف غير المواتية، وأقرب مثال على ذلك، حالة البدو فهم في الأوقات التي تغمر مرابعهم خضرة الربيع وتهدر الشعاب والغدران، تجدهم في أسعد حال مأكلا وملبسا ومعاشا، يبالغون في السخاء والكرم إلى حد الإفراط والتبذير ولسان حالهم: إذا هبت رياحك فاغتنمها(!!) لكنهم حين يغشاهم الجدب ويطأهم وينيخ عليهم الدهر عندما تمسك السماء عن المطر ويهسهس الرمل ولا يبقى إلا يابس الشجر والشوك والعوسج، ينقلبون إلى شر منقلب في المال والأهل والولد، يجالدون العطش والجوع والمرض والخوف من الغارات وقُطّاع الطرق.
هذا ملمح تقريبي للاقتصاد الوحشي في ازدهاره وفي اندحاره، خصوصا في البوادي، إنما هناك، أيضا اقتصاد وحشي في الحاضرة، بل في عز التمدن والتنمية .. على مستوى الأفراد والمؤسسات والدول أيضا.. فنحن نشاهد كيف تركت الطفرة آثارها فينا ومارست علينا شذوذها في دفعنا إلى أوج الرفاهية والبذخ في بيوتنا، ملابسنا، سياراتنا، رحلاتنا ومناسباتنا.. إلخ، كثيرون يهدرون الثروات دون حساب، وفي مواقع لا عوائد منها وإنما الذاهب معدوم لا رجعة له .. حالة خيلاء واستهلاك فج يستعرض فيه البعض على البعض في منافسات بطلها الاقتصاد الوحشي وضحيتها الناس أنفسهم حين يجف المورد أو يكاد.
انظروا إلى بيوتنا: مجالس، آرائك، غرف وملاحق ينعق فيها الغبار وتتقشر أيادي العمالة وتتغضن في تنظيفها وتلميعها.. خزائن تغص بالأواني، الأجهزة، الأدوات وأخرى تغص بالملابس أو الشنط أو الأحذية معظمها بالكاد استخدمناه.. انظروا إلى سلال مشترياتنا مزدحمة كما لو كان كل واحد فينا يعد وليمة للحي بكامله أو أنه سيفتتح بها بقالة.. انظروا إلى أفراحنا التي نحيلها إلى أتراح بسبب (الفشخرة) فتركبنا الديون والهم الملعون. ثم انظروا إلى أتراحنا (العزاء) كيف نحيلها إلى (دورية مفاطيح)، أما إجازاتنا، سياحاتنا (فويلي عليك وويلي منك يا رجل!!) نقطع أجواز الفضاء وعباب البحار إلى بلدان العالم المتقدم، نمشي في الأرض مرحا. نزركش حركاتنا وسكناتنا بريش الطاووس، نستبدل مطعما بمطعم، ملهى بملهى، مقهى بمقهى، حفلا بحفل، متجرا بمتجر، سوقا بسوق وفندقا بفندق.. (نتكأكأ) على بعضنا صراخنا أضخم من أصواتنا، عيوننا أكبر من هاماتنا، ننفق في شهر ما ينفقه غيرنا في دهر.. نعود منهكين بحاجة إلى إجازة من الإجازة!!
تلك بعض الأعراض المزمنة للاقتصاد الوحشي فينا.. وما من سبيل للجم تحكم هذه الأعراض بسلوكياتنا، وليس للعظات أو النصائح قدرة على فرملة هذه الهرولة في دروبه.. وسوف يظل يأخذنا في نشوة معه ساعات الوفرة لينتهي بنا إلى حيث الكمد والحسرة، والطريق لكي نقطع سلطة الاقتصاد الوحشي علينا وتحكمه فينا: أن نقوم بتعليم أبنائنا أهمية الاقتصاد، كيفية وضع الميزانيات الشخصية، وثقافة التوفير، الادخار منذ الصفوف الأولى.. أما نحن معشر الكبار، رغم اعوجاجنا فليس أمامنا سوى محاولة مواجهة مثالبنا وما نكتشفه فينا من عيوب، من خلال الانخراط في دورات أولية أو الالتحاق بدروس تؤسس فينا ما هو ضروري للشفاء من داء الاقتصاد الوحشي، لعل وعسى... ألا يستحق الأمر شرف المحاولة؟ إن لم يكن من أجلنا فمن أجل أولادنا الذين نجرفهم معنا في اقتصادنا الوحشي!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي