تقرير: تراجع الدولار بنسبة 10% يخفض القوة الشرائية لعملات الخليج 5%
أكد تقرير مصرفي أن انخفاض الدولار بنسبة 10 في المائة يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للدول المنتجة للنفط بنسبة 5 في المائة. كما أن التراجع المستمر للدولار أوجد مضاربات عالية على العملات الخليجية للدول الخمس غير الكويت، ما جعلها تدرس فك ارتباط عملاتها بالدولار.
وزادت حدة هذه المضاربات عندما تجاهلت بعض الدول الخليجية تخفيض سعر الفائدة على الدولار بـ 50 نقطة أساس، التي اتخذها البنك المركزي الأمريكي لتحفيز اقتصاده البطيء النمو.
وعرج التقرير إلى التجربة الكويتية في فك ارتباط عملتها بالدولار والتوجه نحو سلة عملات، مشيرا إلى أن الدينار الكويتي ارتفعت قيمته بنسبة 4.5 في المائة منذ قرار فك ارتباط العملة ومازال يحظى بزخم أكبر نحو الارتفاع. يذكر أن التقرير يؤكد أنه من الصعب حالياً الحكم بدقة على الآثار الاقتصادية الأساسية لفك ارتباط الدينار بالدولار بسبب قصر المدة الزمنية منذ اتباع نظام الصرف الجديد، وكذلك لأن معظم المؤشرات والمعايير الاقتصادية من البطالة والصادرات والواردات والأوضاع المالية تقاس بشكل ربع سنوي.
في مايلي مزيداً من التفاصيل:
واجه الاقتصاد العالمي أحداثاً وتحديات عديدة ومتتابعة، حيث إن ارتفاع أسعار النفط مدفوعا بالعوامل الجيوسياسية، والارتفاع المتنامي للطلب عليه من الدول الناشئة ذات النمو المتسارع، إضافة إلى محدودية زيادة الطاقة الإنتاجية منه، قد أدى إلى ارتفاع مؤشرات الأسعار العالمية. كذلك فإن بعض السلع الخام الأخرى قد ارتفعت أسعارها متضمنة المعادن الثمينة وسجلت مستويات قياسية خلال عام 2007.
كما أن تدهور قيمة الدولار أدى إلى مضاعفة أثر ارتفاع أسعار البترول مقوما بالدولار. فكان لضعف الدولار وارتباطه بالأزمة المالية التي أحدثتها مشكلة العقار الأمريكي "سبرايم" أثر كبير في تحول المستثمرين بعيداً عن الأصول المقومة بالدولار.
ورغم ذلك فإن الأثر الكلي لارتفاع أسعار النفط على التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية يتوقع أن يكون بمعدل 0.5 في المائة فقط بنهاية العام. كما أن أثره على الدول المتقدمة الأخرى يتوقع أن يكون أقل لأن اعتمادها على المواصلات الخاصة أقل.
وجدير بالذكر هنا أن تراجع قيمة الدولار هو توجه من المتوقع أن يستمر وليس دورة اقتصادية قصيرة المدى، ما يعني استمرار تراجع هذه العملة على المدى الطويل طالما أن عجز الميزان الجاري الأمريكي سيظل كبيرا ولمدة طويلة وفقاً للدراسات الأخيرة.
أما بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي (السعودية، الكويت، الإمارات، البحرين، قطر، وعمان) فإن هذه الأحداث الاقتصادية قد فتحت لهم فرصاً وتحديات في الوقت نفسه. وتكمن الفرص في أن العوائد البترولية الضخمة قد سمحت لهم بتعديل موازين مدفوعاتهم وتحسين سياساتهم المالية. فعند مبلغ 350 مليار دولار تتعادل دول الخليج في فائض ميزانها الجاري مع الصين. وعلى الرغم من هذه الإحصائيات الباهرة، إلا أن أسعار النفط الفعلية والمرجحة بأسعار التضخم العالمية لم تصل حتى إلى مستوياتها في أواخر السبعينيات (انظر الشكل 1)، ما يعني أن دخل دول الخليج بالمعايير الحقيقية أقل منه عن الطفرة السابقة.
كما لابد من الإشارة أيضاً إلى أن الأوضاع الاقتصادية العالمية تشكل تحديات فعلية ومتوقعة لاقتصاديات الخليج للعديد من الأسباب. أولا، وباستثناء الكويت، كل العملات الخليجية مرتبطة بالدولار لفترة طويلة، ومع استمرار تراجع قيمة الدولار فإن القوة الشرائية لهذه العملات الخليجية تتناقص. فالكويت هي الدولة الوحيدة التي فكت ارتباط عملتها بالدولار منذ شهر أيار (مايو) 2007 حيث تحولت إلى الربط بسلة من العملات، بينما ظلت دول الخليج الأخرى ملتزمة بارتباط عملاتها بالدولار، على الرغم من تراجع قيمة الدولار بشكل مستمر. ثانياً، إن تراجع الدولار مصحوبا بارتفاعات كبيرة في أسعار النفط رفع مستويات التضخم العالمية، والذي تستورده دول الخليج من خلال استيرادها للسلع العالمية، خاصة الأغذية. ولذلك فإن تراجع الدولار مقابل سلة العملات من الين الياباني واليورو والجنيه الاسترليني مثلا يؤدي إلى طلب دول الخليج لعوائد أعلى حتى تحمي قدرتها الشرائية. ووفقاً لإحصائية من بنك مورجان ستانلي فإن انخفاض الدولار بنسبة 10 في المائة يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للدول المنتجة للبترول بنسبة 5 في المائة.
ويمكن توضيح ذلك من خلال الرسم البياني لتدهور كل من سعر الصرف الحقيقي للريال السعودي مرجحا بالتضخم وسعر الصرف للريال المرجح بالقوة الشرائية، الذي يأخذ في الاعتبار كلا من السلع التجارية وغير التجارية في سعر الصرف للريال. فكما يلاحظ من الشكل 2، اتخذ كل من سعر الصرف الحقيقي والمقوّم بالقوة الشرائية منحى تصاعديا، مشيراً إلى أن القوة الشرائية للريال قد تراجعت بشكل ملحوظ.
كما أن التراجع المستمر للدولار أوجد مضاربات عالية على العملات الخليجية للدول الخمس غير الكويت، ما جعلها تدرس فك عملاتها عن الدولار. وقد زادت حدة هذه المضاربات عندما تجاهلت بعض الدول الخليجية تخفيض سعر الفائدة على الدولار بـ 50 نقطة أساس، التي اتخذها البنك المركزي الأمريكي لتحفيز اقتصاده البطيء النمو. فمؤسسة النقد السعودية اتخذت قراراً بعدم تخفيض الفائدة لاحتواء التضخم، ما شجع المضاربة عل الريال احتساباً لإعادة تقييمه. ومن ثم قامت السلطات النقدية السعودية بالتدخل بقوة في سوق الصرف الآجل للحد من هذه المضاربات. وفيما بعد وعندما قام البنك الفيدرالي بتخفيض الفائدة 25 نقطة أساس إضافية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 قابلت "ساما" ذلك بتخفيض مماثل في سعر الفائدة وكذلك باقي الدول الخليجية الأخرى.
هذا يوضح التحدي الذي تواجهه دول الخليج، آخذة في الاعتبار الفرق في الدورات الاقتصادية التي تواجه الاقتصادين الأمريكي والخليجي. ففي حين تواجه الولايات المتحدة حالة "التضخم الركودي" أي نمو بطيء مصحوب بالتضخم، تواجه دول الخليج نموا اقتصاديا قويا مصحوبا بالتضخم المرتفع. وبالطبع فإن تركيبة من الأدوات المالية والنقدية يجب استخدامها لحل هاتين المشكلتين المتصاحبتين في كلا الإقليمين. فبينما تحتاج أمريكا إلى أن تخفض سعر الفائدة لتحفيز اقتصادها، يلزم دول الخليج أن ترفع أسعار الفائدة لكبح التضخم. إلا أن نظام الصرف الثابت المرتبط بالدولار الذي تتبعه هذه الدول يحول دون المرونة التي يمكن أن تتبعها في السياسة النقدية لها للحد من التضخم.
وحيث إنه ليس هناك بوادر تشير إلى إمكانية ارتفاع قيمة الدولار، فإلى متى تبقى دول الخليج الأخرى على وضعها قبل أن تتبع سياسة الكويت في فك عملاتها عن الدولار؟ وما الدروس التي يمكن أن تتعلمها دول الخليج الأخرى من دول تجربة الكويت.
التجربة الكويتية
إن فك ارتباط العملة الكويتية بالدولار لم يأت مفاجأة للكثير من المراقبين لسوق الصرف، حيث إنها لم تكن المرة الأولى التي تقوم بها الكويت بذلك في تاريخها. فقد حصلت المرة الأولى لذلك عام 2000 عندما خفضت قيمة الدينار بـنسبة 3.3 في المائة (شكل 3). إلا أن الأوضاع الاقتصادية التي دعت إلى فك الارتباط هذه المرة مختلفة. ولذلك نجم في المرة الأخيرة رفع لقيمة الدينار، بينما نتج عن المرة السابقة تخفيض لقيمة الدينار. كما أنه في المرة الأخيرة تم تقييم العملة بسلة من العملات من الدولار، الجنيه الاسترليني، اليورو، والين الياباني، وإن كان الدولار يمثل بحصة كبير في سلة العملات، إلا أنها الخطوة الصحيحة نحو التغيير التدريجي وفقاً للاتجاهات الاقتصادية مع الاقتصاديات العالمية. وهذه نقطة مهمة، لأنه على الرغم من أن الدولار يشكل 70 في المائة من سلة العملات للدينار الكويتي، إلا أن أمريكا تشكل فقط 7 في المائة و15 في المائة من الصادرات والواردات الكويتية على التوالي في عام 2006. فمعظم الصادرات الكويتية (42 في المائة) تتجه إلى آسيا، بينما تأتي أكثر من ثلث وارداتها من منطقة اليورو.
ومنذ فك الدينار الكويتي من الدولار ارتفعت قيمته بنسبة 4.5 في المائة ومازال يحظى بزخم أكبر متوقع للارتفاع. وكما نلاحظ من الشكل 5، نجد أن الدينار ارتفعت قيمته من 0.288 دولار لكل دينار في أيار (مايو) 2007 إلى 0.275 دولار لكل دينار في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007. ويمثل ذلك ارتفاعا نسبته 12 في المائة خلال السنوات الست الماضية.
من الصعب حالياً الحكم بدقة على الآثار الاقتصادية الأساسية لفك ارتباط الدينار عن الدولار بسبب قصر المدة الزمنية منذ اتباع نظام الصرف الجديد، وكذلك لأن معظم المؤشرات والمعايير الاقتصادية من البطالة والصادرات والواردات والأوضاع المالية تقاس بشكل ربع سنوي. كما أن معايير اقتصادية أخرى مثل الناتج المحلي الإجمالي تقاس على فترات زمنية أطول عادة ما تكون سنوية. إلا أن قياس التضخم والذي أسهم بشكل كبير في فك الارتباط من الدولار يقاس بصفة شهرية. ويتبين من معيار التضخم بعد فك ارتباط الدينار عن الدولار، قد شهد انخفاضا تدريجيا ملحوظا. فانخفض التضخم من 5 في المائة في أيار (مايو) 2007 إلى 4.8 في المائة في آب (أغسطس) من العام نفسه، ويتوقع الكثير من المؤسسات البحثية ومنها صندوق النقد الدولي أن يتراجع التضخم في الكويت إلى 2.7 في المائة بنهاية عام 2007 وإلى 2.6 في المائة بنهاية عام 2008 ليكون الأقل في دول الخليج.
إن توزيع سلة السلع والخدمات المكونة لمؤشر التضخم في الكويت يبين أن معظم الضغوط التضخمية تأتي من الإسكان والذي يشكل 30 في المائة من سلة التكلفة/ السعر للمؤشر. ويتبع ذلك قطاع النقل والمواصلات بنسبة 16 في المائة ثم الغذاء بنسبة 10 في المائة. الإنفاق الاستهلاكي في كل القطاعات الثلاثة السابقة شهدت انخفاضا ملحوظا في أسعارها منذ فك ربط الدينار بالدولار في أيار (مايو) 2007. فعلى سبيل المثال انخفض التضخم في قطاع النقل من 10 في المائة في تموز (يوليو) 2007 إلى 8 في المائة في آب (أغسطس) 2007. وبالمثل بالنسبة لقطاع الغذاء انخفض من 5.6 في المائة في مايو 2007 إلى 2.1 في المائة في تموز (يوليو) 2007. والفضل يرجع لفك الربط من الدولار وإعطاء السلطات النقدية مرونة أكبر في استخدام سياساتها النقدية للحد من التضخم.
يذكر أن أسعار الفائدة على إعادة الشراء انخفضت لعدة مرات منذ فك ارتباط الدينار بالدولار. كما يتبين من الشكل 7، بعد شهرين من تغيير سعر الصرف انخفض سعر الفائدة مرتين ليصل إلى 4.4 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 منخفضا من 5.2 في المائة في آب (أغسطس) من العام نفسه. أما البيانات السنوية للدخل والمؤشرات الاقتصادية الأخرى تدل على أن الاقتصاد الكويتي يسير في الاتجاه الصحيح. فالتوقعات لنمو الدخل المحلي والحساب الجاري للكويت بنهاية 2007 إيجابية بشكل قوي، ويعود ذلك للارتفاع في أسعار البترول وانخفاض التضخم. إلا أنه للسنوات المقبلة يتوقع محللون في بنك جلف ون أن يكون هناك نمو ولكن بمعدل تناقص في الاقتصاد الكويتي. فعلى الرغم من الخطوة الصحيحة في فك ارتباط الدينار عن الدولار إلا أن الخطوة الأهم تكمن في التنويع للقاعدة الاقتصادية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكويت الأقل في التخصيص، تأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الأولى بين الدول الخليجية في ذلك.
ووفقاً للدراسات النظرية والتطبيقية تكون تغييرات سعر الصرف مجدية عندما ينطبق شرط مارشال- ليرنر، وهو أن يكون مجموع مرونة الطلب على الواردات ومرونة عرض الصادرات أكبر أو يساوي واحدا. وعند إجراء دراسات تحليلية للكويت نجد أن مرونة الطلب على الواردات تعادل 0.22 ومرونة العرض على الصادرات تساوي 0.69 ما يعني أن مجموعهما 0.91 أي أقل من واحد. ذلك يعني أن شرط مارشال لا ينطبق عليها وأن تغيير سياسة الصرف ليست كافية بمفردها. وهذه نتيجة غير مستغربة على كل الدول الخليجية التي تعتمد في دخلها بقوة على صادراتها البترولية والتي تتحدد أسعارها في السوق العالمية، مما لا يتماشى اتجاهه مع تغييرات أسعار الصرف. وذلك يجعل تنويع القطاع غير النفطي أمرا ضروريا لتسريع عجلة النمو الاقتصادي.
الدروس المستفادة لدول الخليج الأخرى
كخطوة نحو الاتحاد النقدي الخليجي عام 2010، اتفقت دول الخليج منذ مدة طويلة على توحيد سياسات الصرف لديها وتثبيت عملاتها مقابل الدولار. إلا أن انخفاض قيمة الدولار وارتفاع التضخم جعل الكويت تتخذ اتجاها مختلفا وتربط عملتها بسلة من العملات.إن نجاح الكويت في احتواء التضخم يستدعي النظر من دول الخليج الأخرى لذلك ، حيث إن التضخم المستورد يشكل الهاجس الأكبر لقطاع الأعمال والمستهلكين. وكما يلاحظ من الشكل 9 فإن كل دول مجلس التعاون، باستثناء الكويت، تشهد اتجاها تصاعديا في معدلات التضخم.
ووفقاً لإحصائيات صندوق النقد الدولي، فإن معدل التضخم في منطقة الخليج سيرتفع إلى 10.8 في المائة في عام 2007 بدلا من 7.5 في المائة في عام 2006 ويتوقع أن يصل إلى 9.2 في المائة في 2008. هذه البيانات مبنية على الإحصائيات الرسمية ومن ثم لا تمثل الفجوة التضخمية الحقيقية التي تقاس بالفرق بين نمو العرض النقدي ونمو الدخل القومي الحقيقي. فعلى سبيل المثال السعودية معدل التضخم الرسمي 4.9 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 بينما الفجوة التضخمية، وفقاً للتعريف أعلاه، بلغت أكثر من 15 في المائة لعام 2007. ويسبب ارتفاع معدلات التضخم في دول الخليج الكثير من التحديات الاقتصادية. ففي كل من قطر، الإمارات، وعمان لديهم سعر الفائدة الحقيقي سلبياً مرجحا بمعدلات التضخم بمعدلات 7 في المائة، 5 في المائة، و1 في المائة على التوالي
وما لذلك من تبعات سلبية على هذه الاقتصاديات. ومن ثم فإن الفجوات التضخمية في هذه الدول الثلاث هي الأعلى بين دول الخليج، حيث تأتي قطر في المقدمة بنسبة 29 في المائة، ثم الإمارات بنسبة 22 في المائة، ثم عمان بنسبة 18.2 في المائة.
من المعايير المبدئية أن يكون هناك سياسة مالية انكماشية لكبح التضخم، إلا أن ربط العملات الخليجية بالدولار أدت إلى عكس ذلك، فقامت هذه الدول بتخفيض سعر الفائدة تبعا للسياسة النقدية الأمريكية رغم أن وضعها الاقتصادي يعاكس أوضاع الاقتصاد الأمريكي. وهذا يزيد من الاقتراض ومن ثم عرض النقود في هذه الدول لتدفع بالتضخم إلى الأعلى. فمثلا في السعودية زاد عرض النقود بنسبة 18.1 في المائة هذا العام مقارنة بنسبة 14.4 في المائة في عام 2006، كما أنه في الإمارات زاد العرض النقدي بنسبة 29.2 في المائة مقابل 25.1 في المائة للفترة نفسها. هذا العرض النقدي يدفع أسعار الأصول العقارية والحقيقية بأعلى من قيمتها، وكذلك يرفع مستويات الأجور وأسعار السلع والخدمات. فإذا لم يقابل ذلك قدرة إنتاجية للاقتصاديات الخليجية ورفع من ربحية صناعاتها وزيادة طاقاتها الاستيعابية من شركات ومصانع، وهو ما لم يحدث خلال هذه الفترة القصيرة، فإنه لن ينتج عن ذلك إلا ارتفاعات مستمرة في مستويات الأسعار.
إن السلطات المالية والنقدية في دول الخليج على علم تام بهذه الدوامة الاقتصادية ويدرسون تغيير نظام الصرف، إلا أن الانفصال التام عن الدولار لا يمكن أن يحدث مباشرة. إن إعادة تقييم ورفع قيمة العملة المحلية لمرة واحدة ليست سياسة جيدة، بل ربما هي أسوأ في نتائجها من البقاء على ثبات سعر صرف الثابت بالدولار من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. فمن الناحية السياسية، إن فك ارتباط عملتي السعودية والإمارات (أكبر اقتصادين خليجيين) يشكل مصدر قلق وعدم استقرار للاقتصاد الأمريكي، فالبنوك الغربية تخشى زيادة الطلب على الأصول والعملات غير المرتبطة بالدولار مثل اليورو والجنيه الاسترليني ما سيدفع بقيمتهم إلى الأعلى بحدة. فالسيد مافن كنج، رئيس البنك المركزي البريطاني، صرح أخيرا عن قلقه من فك ارتباط العملات الخليجية عن الدولار، وأبدى تفضيله لارتفاع قيمة العملات الآسيوية عن أن تقوم دول الخليج بفك ارتباطها من الدولار "فاينانشيال تايمز 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007". لذلك فإن دول الخليج تواجه ضغوطا سياسية، إلا أنها تستطيع أن تتغلب عليها إذا ما نجحت في إتمام الاتحاد النقدي بحلول عام 2010 وربط عملاتها بسلة من العملات بناء على استراتيجية تأخذ بها كل المعايير الاقتصادية للدول الست.
أما من الناحية الاقتصادية، فإنه لكون دول الخليج تعتمد في إيراداتها بنسبة 80 في المائة على العوائد النفطية الذي يتم تسعيره بالدولار، فإن فك ارتباط عملاتها عن الدولار يؤدي إلى تخفيض قيمة إيراداتها الحكومية، وسيكون له أثر سلبي كبير على بعض صفقات بنوكها المحلية في أسواق الصرف الخارجي وصناديقها الحكومية المحلية. كذلك فإن استثمارات دول الخليج في الأصول المقومة بالدولار ستواجه خسائر ملحوظة.
خيارات فك الارتباط عن الدولار
على الرغم من العوامل السياسية والاقتصادية للبقاء على ربط العملات الخليجية بالدولار، إلا أن هناك دوافع عديدة لتغيير نظام الصرف والتحول نحو ربط عملات دول الخليج بسلة من العملات وبمنهج التعويم المدار وبحدود معينة للتقلبات في سعر العملات. وهذا أصبح ضرورة ستزداد قوتها مع عمليات التخصيص والتنويع الاقتصادي التي تتبعها معظم دول الخليج حالياً وتغيير خريطتها التجارية. ففي عام 2006 شكلت واردات السعودية من الولايات المتحدة الأمريكية 16 في المائة فقط من إجمالي وارداتها، بينما تشكل وارداتها من الدول الاتحاد الأوروبي ما يفوق 36 في المائة (انظر شكل 10). ومن ناحية الصادرات فإن 48 في المائة من صادرات السعودية موجهة لآسيا، و16 في المائة أخرى لأوروبا، و15 في المائة فقط لأمريكا . لذلك لا بد أن تكون سلة العملات تعكس التجارة بين الدولة المحلية والعالم. ومن هذا المنطلق وبشكل افتراضي لابد أن تتضمن سلة العملات المقومة للريال السعودي ما نسبته 30 في المائة من اليورو و20 في المائة من الدولار و10 في المائة من الجنيه الاسترليني، 10 في المائة من الين، والـ 20 في المائة المتبقية من العملات الخليجية الأخرى. على أن تكون هذه السلة مرنة وقابلة للتغيرات وفقا للتوجهات التجارية لدول الخليج في المستقبل والتي تتجه على المدى الطويل نحو الشرق بدلا من الغرب، وهي في ذلك تشابه دول الاقتصاد العالمي كلها بما فيها أمريكا.
من الجدير بالذكر أن الدولار خفض من قيمة العملات الخليجية بنسبة تتراوح بين 25 في المائة و30 في المائة على الأقل خلال السنوات الخمس الماضية، ما يعني أن فك الربط بالدولار وعدم إعادة تقييم وتعديل لسعر صرف العملات الخليجية بشكل سليم سيخدم المستقبل الاقتصادي لهذه الدول ولن يعالج خسائر السنوات السابقة. لذلك لابد أن يصاحب فك الربط بالدولار إعادة تقييم وتعديل لقيمة العملات الخليجية حتى يكون لذلك مردود فعال على اقتصاديات الخليج.
الأثر على قطاع الأعمال
أيما كان قرار السلطات النقدية في دول الخليج نحو سعر الصرف لعملاتها فسيكون له آثاره على قطاع الأعمال بشكل مباشر. فإذا ما اختارت سياسة "عدم التغيير" فإن الشركات والمؤسسات التي تمتلك أصولا مالية أو فعلية مقومة بالدولار سوف تتأثر سلبا خاصة إذا كانت معظم الصفقات التي تقوم بها تتم بعملات أخرى مثل اليورو أو غيره، ما قد يجعل بعض هذه الصفقات غير مجدية أحيانا.
إن السياسة المثلى لقطاع الأعمال للتقليل من مخاطر العملة في الصفقات للقطاع الخاص هو تكوين محفظة متنوعة تحتوي على سلة من العملات. تحتوي المحفظة على سلة عملات تتناسب مع حجم صفقات الشركة بالعملات المعنية. فإذا كانت الشركة تتعامل في صفقاتها باليورو فلابد أن تحتوي المحفظة على ما يماثلها من اليورو، وهكذا للصفقات الأخرى بالعملات المختلفة.
بالنسبة لمشاريع البنية التحتية، فإن الربط بالدولار يؤثر سلبا على الصفقات التي تتطلب شراء معدات وآلات من دول عملاتها غير مرتبطة بالدولار. أولا، باب للتضخم المستورد الذي ينعكس على عملاتها كألمانيا أو فرنسا مثلاً، ما سيزيد من تكلفة تمويل هذه المشاريع. ثانيا، إن إيرادات المشاريع بالعملات المحلية المرتبطة بالدولار من مشاريع البنية التحتية، مثل تعرفة المياه أو الكهرباء أو رسوم المواصلات العامة وغير ذلك ستكون قيمتها أقل مع مرور الوقت، ما سيتطلب رفع هذه الرسوم أو منح إعانات من الحكومة، وكلاهما اختياران غير محبذين اقتصادياً وسيكون لها آثارها الاجتماعية غير المرغوبة. كما أن ذلك سيزيد من مطالبات رفع الأجور وينعكس سلبا على اقتصاد دول الخليج ويتعارض مع سياساتها الاقتصادية التوسعية.
من الحلول الأخرى يمكن أن يتم تقييم التضخم المتوقع في مكونات الاستثمار مبكرا واحتسابها في النموذج المالي للعقود المبرمة للصفقة. أو أن يتم مقابلة الإيرادات المتزايدة من الأصول المقومة بغير الدولار لتعوض عن تناقص إيرادات الأصول المقومة بالدولار.
في الختام لابد من القول إن ارتباط العملات الخليجية بالدولار خلال العقدين الماضيين كان له أساسيات اقتصادية معاكسة تماما لما هي عليه الآن (أسعار بترول منخفضة، اقتصاد أمريكي قوي، تضخم منخفض، حسابات جارية موجبة، دولار قوي)، بينما الآن ومع النمو الاقتصادي القوي الذي تشهده دول الخليج ومعدلات التضخم المرتفعة جدا لا بديل من تغيير سياسات الصرف وربط عملاتها لخدمة خططها الاستراتيجية الاقتصادية.