رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


عن أي ديمقراطية تتحدث أمريكا؟!

لا تستهويني الكتابة في السياسة، رغم أنني أعدّ نفسي كاتبا في الشأن العام، بيد أنه الشأن الذي يعيشه المواطن في بلدي، لكن ما يجري من ممارسات باسم الديمقراطية، على أكثر من ساحة دولية، يستفزني ويثيرني ويقطع صمتي في بعض الأحيان، ويدفعني للتنفيس عما يخالج إحساسي، وأنا أرى أكثر الدول تقدما، وأكبرها قدرة على التأثير وتغيير وجه العالم إلى وجه مشرق تعلوه ابتسامة التعايش، والتآلف والتعاون على نبذ الشر، وتعميم الخير، أراها أكبر مسبب لتشويه ذلك الوجه، ورسم العبوس والشقاء والندوب على محياه!.. والأكثر ألما أن يجري ذلك بحجة نشر الديمقراطية وباسمها، حتى غدت هذه الديمقراطية مطية من لا مطية له، يركبها ليصل إلى مبتغاه، ليبدأ ممارسة كل ما يهدم الديمقراطية، ويحثو عليها التراب!..
دعونا نبدأ من عندهم ونتناول ما يجري هذه الأيام في طريق البيت الأبيض من صراع، وليس سباقا، بين المرشحين المتنافسين، وما يمارسونه أمام الناخبين، وأمام العالم، من تمثيل وهياج وافتراء، يخيل إليك وأنت تتابعه، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أصيبت بالعقم في إنجاب من يستحق أن يرأس هذه الدولة العظمى، التي أسهم رؤساؤها، على مدى قرون ماضية، في بناء عظمتها، وإبراز هيبتها، وإجبار العالم على احترام سجلها التاريخي في الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وإذا بأحفادهم، ممن حكموها في العقدين الماضيين، ينسفون ما بناه أسلافهم من أمجاد، ليورثوا بلدهم، بدلا منها، المزيد من الأحقاد!..
كنا ندرس، ونعلّم أبناءنا تاريخ أمريكا، وما خلّفه رؤساؤها العظام، أمثال جورج واشنطن، وأبراهام لنكلن، وحتى جون كندي، من آثار ومآثر يحذو حذوها الزعماء والحكام ويقتدون بها!.. أما اليوم، وربما الغد، فما الذي سنجده في رؤساء أمثال كارتر وبوش الأب والابن، ومَن سيخلفهم لكي نعلّمه لأبنائنا غير ما يخجل التاريخ عن تسجيله؟!
دعوني أستدرك وأقول إن العيب ليس في الشعب الأمريكي كبشر، فقد عايشناه وخبرناه، وتعلمنا في جامعاته على أيدي أمهر العلماء، وأكثرهم إخلاصا لمبادئ الحق والحرية، والتعايش مع العالم، لكن العيب فيمن يخدع الشعب بالزعيق على مدى عام كامل، إلى أن يبحّ صوته، وهو يستدر عطف العامة، ليصل إلى العتبة الكبرى، ولو على حساب تلك المبادئ، التي تدرّس في الجامعات، وتنسق في البيت الكبير!.
دعونا نستعرض بعض مخلفات وضحايا الديمقراطية التي ينادون بها ويمارسونها لكي نثبت أنها ديمقراطية مشوّهة:
- غزا العراق، أمام بصر العالم وتحت سمعه، بدعوى تحقيق الديمقراطية، بعد أن اختلق الأكذوبة الكبرى، وصور البلد وكأنه مخزن أسلحة دمار شامل ستحرق العالم، ونجح فقط في تخويف العالم وإسكاته حتى عن قول كلمة الحق بعد افتضاح اللعبة!.. والحصيلة تدمير بلد عظيم مسلم، وتشريد وتقتيل شعبه، وإيقاظ الفتن عليه، ولو انبرى من يدافع عن هذا البلد، أو يقاتل (المعتدي) لوصف بالإرهابي!..
- في فلسطين، نادى بالديمقراطية، وأنها يجب أن تأتي عن طريق انتخابات حرة نزيهة، ولما أتت قالوا لهم قفوا فليست هذه هي الديمقراطية التي نريد، أو تريد جارتكم العزيزة، إسرائيل، وكأن أمريكا اتفقت مع الجارة على استخدام هذه الديمقراطية وسيلة لمعرفة أكثر ممثلي الشعب حماسا وإخلاصا لقضيته، وهم نوابه، لتزج بهم في السجون، والعالم يتفرج على هذا النّحر المكشوف للديمقراطية!..
مشكلة الساسة الأمريكان أنهم يدسّون أنوفهم في كل شأن من شؤون غيرهم، ولا يقيمون وزنا للدول الأخرى، ويعدونها تابعة، متناسين أن التدخل في شؤون الآخرين، حتى على المستوى الشخصي، يورث الكراهية، ويجلب الفرقة والأحقاد، وأن حق الدول الأخرى، مهما كانت صغيرة، في استشعار الكرامة والاستقلالية ثابت في دساتيرها، وفي الاتفاقات الدولية، طالما كانت عضوا في الأمم المتحدة.
ومشكلتهم الثانية داء المكابرة والغرور، المتمثل في عدم الاعتراف بالخطأ عندما يقع منهم، بل إنهم يصورونه نجاحا، فالرئيس لا يتورع عن الافتخار بأنه جلب الحرية للشعب العراقي، والشعب الأفغاني، أو أنه يحول دون إيران وتهديد العالم بالسلاح النووي، في الوقت الذي يحمي ويبرر فيه امتلاك إسرائيل هذا السلاح!..
ومشكلتهم الأخرى أنهم يكذبون على الشعب حتى يوصلهم إلى كرسي الرئاسة، فيسرفون أثناء حملاتهم الانتخابية في كيل الوعود، وتبني المثاليات، وتخليص الشعب والعالم من مشكلاته، ويكفي أن يصل الواحد منهم، ليتبخّر بعد ذلك كل شيء!..
ومع احترامي لبعض الديمقراطيات، إلا أنني أرى أن الديمقراطية الحقة هي التي تعني إيصال الأكفأ لقيادة الكل، ولا تتمثل في الزعيق، ولا في الظهور الإعلامي الإبهاري، ولا حتى في الزعامات الحزبية، ولا في الحسب ولا في النسب!.. بل في العمل المخلص الصامت الدؤوب من أجل الناس!.. وأن يكون هذا العمل هو الحملة، والدعاية، والنبراس، والوسيلة!..
أما مرشحو أمريكا الحاليون، فلا أرى أنه يتوافر في أي منهم مقومات الكفاءة لقيادة أكبر قوة اقتصادية وسياسية في العالم، إلا إذا تغاضينا وقلنا إنهم أحسن السيئيين الموجودين، بعد أن آثر غيرهم الانكفاء على نفسه من هول ما يشاهده من مهازل السياسة ومآسي الحروب. ومن ثم، وهذا توقع شخصي، ستبقى الساحة خالية لجون ماكين!.. وإن كان من المؤكد أنه لن يكون أحسن من سلفه!..

والله من وراء القصد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي