عندما تتمخض الجبال عن فئران
سأل رجل حاتماً الطائي: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم, غلام يتيم في طي نزلت بفنائه, وكان له عشرة رؤوس من الغنم, فعمد إلى رأس فذبح وأسلخ من لحمه وقدم إلي وكان فيما قدم إلي الدماغ فتناولت منه فاستطيبته, فقلت له طيب والله فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأساً رأساً ويقدم لي الدماغ وأنا لا أعلم, فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح كل ما يملك من الغنم, فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به, إن ذلك سبة على العرب قبيحة, فقيل يا حاتم: فماذا الذي عوضته؟ قال: 300 ناقة حمراء و500 رأس من الغنم, فقيل: إذاً أنت أكرم منه! فقال: بل هو أكرم لأنه جاد بكل ما يملكه, وإنما جدت بقليل من كثير.
هذه القصة حتى إن كانت من نسج الخيال حول هذا الكريم الطائي الذي أصبح اسمه رمز الكرم بجزالة عطائه, فإنها تشير إلى أن كم العطاء نسبة إلى كم الموجود هو المؤشر الحقيقي لدرجة الكرم, وهو ما يؤكده حاتم هنا بقوله "بل هو أكرم لأنه جاد بكل ما يملكه وإنما جدت بقليل من كثير".
المسؤولية تجاه الدوائر التي ينتمي إليها الفرد (أسرة, قبيلة, وطن, قومية, دين .. إلخ ) مسؤولية يستشعرها الجميع على اعتبار أن كل فرد هو جزء من كل, والكل هذا قد يكون أي دائرة من هذه الدوائر, ولا شك أن الوطن أصبح الدائرة الأهم من جهة أنه الكيان السياسي الذي يجمع كل أفراده على مختلف انتماءاتهم العرقية والدينية والإثنية, وبالتالي أصبحنا جميعا مسؤولين تجاه تنمية الوطن من خلال تعزيز قوى عناصر بنائه وتطويره, والمحافظة عليه من جميع الأمراض والآفات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ولا شك أن كل منا لديه من القدرة والإمكانات ما يختلف عن الآخرين, وبالتأكيد إن درجة تحمل المسؤولية التي يحصل عليها أي منا نتيجة عطائه ما هي إلا نسبة ما أعطاه إلى ما يملكه من إمكانات ومكانة.
فلا يعقل أن يكون من تبرع بمليون ريال لمشروع خيري من أصل مليارات يملكها أكثر عطاء من رجل تبرع بألف ريال لمشروع خيري من أصل راتب شهري لا يتعدى خمسة آلاف ريال, فالأول يمكن تصنيفه في أدنى درجات الكرم, بينما الثاني يصنف في أعلاها.
المسؤولية الفردية ونتيجة للتطور الاقتصادي أصبحت مسنودة اليوم بالمسؤولية المؤسساتية من خلال مفهوم المسؤولية الاجتماعية للمنشآت الاقتصادية الذي نشأ وترعرع وتطور في الدول الغربية المتقدمة على اعتبار أن تلك المنشآت جزء من كل وعليها أن تسهم في تحسين الكل الذي تنشط فيه والمحافظة عليه, وانتقل هذا المفهوم لبلادنا ليمارس بطرق متفاوتة من قبل المنشآت الاقتصادية .
والمنشآت الاقتصادية كما الأفراد تماما تتفاوت في قدراتها وإمكاناتها, وبالتالي فإن كمية ما تقدمه لخدمة المجتمع لا يمكن تقييمه دون ربط هذا الكم بقدرات وإمكانات المنشأة الاقتصادية, ولا شك أن أصحاب الملاءة المالية من الأفراد والشركات ينظر إليهم كجبال شاهقة يرجى لها أن تتمخض عن خير كبير وكثير, ولكن وللأمانة وكما قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
نعم, ومع الأسف الشديد, نرى معظم الجبال لا تتمخض إلا عن فئران, وكم من جبل كبير خرج علينا بمنتج يدعي بأنه يريد به خدمة المجتمع, حيث يدعي أن هذا المنتج الصغير العظيم في عينه - إن لم يكن المخزي لآثاره السلبية على البلاد والعباد – إنما هو لخدمة المجتمع. وكلنا يعلم أن المجتمع يعاني مشكلات لا حصر لها ويحتاج إلى منتجات تسهم في معالجة تلك المشكلات, منتجات تتناسب مع حجم المعطي وإمكاناته من ناحية وحجم المشكلات وأولوياتها من ناحية أخرى, وأن هذا المنتج يؤخر أكثر مما يقدم.
ولذلك أقول لأصحاب الملايين, ولأصحاب المناصب السياسية, ولأصحاب المكانة الاجتماعية, ولأصحاب القدرات الثقافية, المجتمعات العربية تعاني مشكلات كثيرة ومتعددة وخطيرة تستدعي إدخالها إلى غرفة الطوارئ كما أوضحت ذلك تقارير التنمية العربية المخزية, ومساحات الإسهام في علاج تلك المشكلات وأولوياتها معروفة للجميع. وبما لديكم من مكانة وإمكانية تستطيعون بطريقة أو بأخرى الإسهام في معالجتها, وعندما نرى إسهامكم ذلك الذي يتناسب وإمكاناتكم ودورها في التنمية يحق لكم أن تتفاخروا. ويجب علينا أن نرفع لكم القبعة احتراما, أما أن تلتفتوا إلى سفاسف الأمور ولما هو ضرره أكثر من نفعه, وتدعون كرما لستم أهله "من كيسه عايدة" فهذا أمر محزن, ولن تكون لكم المكانة التي تريدون حتى وإن أعملتم أكبر الآلات الإعلامية قوة, ولن تنطلي حيلكم إلا على السذج من القوم الذين غابت عقولهم وحضرت عواطفهم.
وكلي ثقة بأبناء وطني من أصحاب الإمكانات والمكانة أن يتلفتوا برؤى استراتيجية إلى القضايا المهمة والحيوية مثل: التعليم, الصحة, العلوم والتقنية, تحلية المياه, الإسكان, البطالة, والقضايا الإنسانية ليجعلوها في أعلى سلم أولوياتهم, وينفقوا عليها من مالهم وجاههم وجهدهم بما يتناسب وإمكاناتهم وحجم القضية أو المشكلة. وكلي ثقة أيضا بأن المفسدين لن يثنوا عزائمهم, فمن يسير في طريق الخير لا يثنه مفسد بحال من الأحوال إن لم يكن يحثه على المزيد من البذل والعطاء.