الشـيـخ
حين قال جدنا المتبني:
"وإذا الشيخ قال أف فما مل/ حياة وإنما الضعف ملا"
فقد كان يتحدث عن الهزيع الأخير من العمر، عن الشيخوخة الأحيائية العضوية (البيولوجية الفسيولوجية)، عن الإنسان حين يهرم .. حين يود أن يمشي.. يحب أن يمشي.. يريد أن يمشي، يحلم أن يمشي دون أن يترجرج على العكاز عاثر الخطوات مرتجفا، محني الظهر، كأنه كلما قام راكعا، على حد تعبير جدنا لبيد بن ربيعة.
غير أن كلمة الشيخ بالأساس منتج ينتمي إلى علم الأناسة (الأنثروبولوجيا)، له معناه الابتدائي الأثري العتيق، نشأ مع تشكل التجمعات البشرية: قبائل أو عشائر أو أقوام أو شعوب، في مرحلة الصيد ثم الزراعة ثم المراحل التي تلتهما فقد خضعت كل تلك التجمعات إلى سلطة الشيخ الذي كان يجسد أعرافهم وتقاليدهم، تلقى إليه مقاليد الحل والربط، إدارة التجمع وتوزيع المهام، رعاية طقوس العبادة والطبابة والمناسبات الاجتماعية وفعاليات العمل والحرب والسلم، إصدار القوانين وإنفاذ أحكامها، وظل هذا الشيخ عابراً للأزمنة منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا وإن كانت هيبته وسلطته قد تآكلت إلى حد كبير.
هناك أيضاً الشيخ الذي قد يكون كبيرا أو عميدا أو سيد العائلة أو رب "الحمولة" أو زعيم الأسرة الحاكمة للقرية أو المدينة وربما يمتد سلطانه إلى منطقة أو مناطق، وهو نمط نشأت عنه أهم أطوار الدولة الحديثة في المنطقة العربية على وجه الخصوص.
الشيخ أيضا هو عالم الدين والفقيه والقاضي والمفتي وإمام المسجد والمأذون ومن اشتهر بالورع والتقى، كذلك تأخذ كلمة الشيخ معناها العرقي العنصري الراشح من إرث عصبية جاهلية تجعل من ذي الأصل القبلي شيخاً وغيره ليس كذلك، وكانت لفظة الشيخ تطلق أيضا على كل من كان من الأعيان والوجهاء والموسرين إلا أنها باتت منذ ثلاثة عقود تقريباً تطلق على كل من هبطت عليه ثروة وصار من الأغنياء على حين غرة فإذا المال يكسبه وجاهة وصدارة وحفاوة، يشار إليه بالبنان، حتى لو كانت ثروته ضربة حظ ونصيبا جاءته دون أي جهد يذكر أو ذكاء يعرف عنه، وهي مشيخة تبدأ من زفة تحيط به تتسقط مصالحها عنده فتخلع عليه تملقا ومداهنة لقب الشيخ حتى لو كان ليس فيه من المشيخة إلا أضدادها.
غير أن هناك الشيخ الأروع الأنبل وهو "شيخ الشيوخ" الذي تحدثت عنه الشاعرة الأعرابية تركية بنت ابن فهيد وهي ترثي ابنها ممدوح بقولها:
"عسى الحيا يسقي حياة السطيحه / حتى يسيل واد فيه ممدوح"
"شيخ الشيوخ اللي لربعه منيحه / ما هو من اللي شيخته بس للروح"
"اللي بنار الحرب يتعب نطيحه / من خالفه بالطيب تاليه مفضوح"
فقد وجدت الشاعرة تركية أن وصف ابنها بالشيخ يضيق عن مناقبه المدهشة، فهي قد رأت فيه خلاصة مقطرة لفذاذة كل الشيوخ وخصالهم، رأت فيه ما هو أكثر إبهاراً وإعجازاً لأن شيخته ليست لنفسه وإنما هي منذورة على الدوام لربعه، فنحتت هذا المصطلح "شيخ الشيوخ" من قلب الفجيعة، قدته من فلذة كبدها الثكلى.. لم تترنح، لم تتزعزع، لم تزعق بالعويل أو تشق جيباً وإنما صعدت إلى سدرة منتهى البوح، قطفت من شجر المهابة جلال الكلمات، أغرت الخلود باصطفاء قولها فشقت به أفواه القوافل تهزج به في دوار خمرة نخوة تحلق بالأصوات في أجواز الفيافي فتجاوب طعوسها وقيعانها، على مر العصور، كل رائح وغاد:
شيخ الشيوخ اللي لربعه منيحه
ما هو من اللي شيخته بس للروح!!