لماذا تتزايد مظاهر الفساد في الأجهزة الحكومية؟!
رغم ما تحاول الدولة القيام به من إجراءات، وما تصدره من أنظمة واستراتيجيات تهدف إلى محاربة الفساد بوجوهه القبيحة المتعددة، المتمثلة في الرشوة والواسطة والمحسوبية، واستغلال ممتلكات الدولة، أو الاستيلاء عليها، واستغلال المنصب لتحقيق مصالح ذاتية... إلخ، ورغم التوجه الإصلاحي الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين، ويدعو إلى تعزيزه في مختلف قطاعات الخدمات العامة الحكومية، إلا أن المؤشرات المستقاة من الواقع تبرز وضعا مختلفا يمشي في الاتجاه المعاكس لما ترغب الدولة في تحقيقه!..، فهناك أحاديث كثيرة وكبيرة تتناقل في المجالس والأوساط الاجتماعية، ومنتديات الإنترنت، حول ما يجري في الدواوين الحكومية من ممارسات لا يعرفها إلا من اضطرته الحاجة لمواجهة معاناة الحصول على الخدمة في بعض الجهات الحكومية، وهناك كلام نسمعه أحيانا داخل المجالس، من مواطنين ورجال أعمال، عن بعض المواقف التي يواجهونها في هذا السبيل، وعندما تطلب منهم عدم السكوت، وكشف ما لديهم من معلومات أمام المسؤول الأول عن الجهاز الذي يتحدثون عنه، أو أمام الجهة المختصة بملاحقة مثل هذه الجرائم، يتعزرون بأنهم لا يريدون إيذاء أحد، أو خلق عداوات تتسبب في تعطيل أعمالهم، من قبل أولئك الموظفين، فيما لو تبين لهم أنهم كانوا وراء الإبلاغ عنهم!..
أما من الناحية الرسمية، فإن التقارير تشير إلى تزايد قضايا الرشوة كواحدة من أبرز قضايا عناصر الفساد، حيث يشير تقرير لوزارة الداخلية إلى زيادة قضايا الرشوة المكتشفة بنسبة 10 في المائة عام 1427هـ. "صحيفة "الوطن" 11/2/1429هـ)، والمقصود بذلك قضايا الرشوة المادية المباشرة التي تتمثل في طلب المقابل المادي لإنجاز خدمة يفترض أن تقدم مجانا، أي لا يدخل ضمنها الأنواع الأخرى المتصلة بالرشوة، أو المحسوبة عليها، مثل الواسطة والشفاعة، أو المقابل المعنوي المتمثل في تأدية خدمة أخرى للموظف مقابل الخدمة التي أداها لأحد الأطراف، وهي ليست أساسا من حقه، أو لكي يحصل عليها دون غيره!..
ويشير تقرير آخر لهيئة الرقابة والتحقيق إلى تزايد القضايا المتعلقة بالجوانب السلبية لأداء الموظفين، التي تقوم باكتشافها الهيئة، مثل قضايا الرشوة والتزوير والاختلاس، واستغلال النفوذ والتزييف، حيث بلغت القضايا التي تولت الهيئة اكتشافها والتحقيق فيها عام 1428هـ (7990) قضية، (صحيفة "الوطن" 13/2/1429هـ)، وإذا أضيف إلى هذه الجهود ما تقوم باكتشافه جهات الرقابة والمتابعة الأخرى، مثل ديوان المراقبة العامة، ووزارة المالية في محيط الرقابة السابقة من مخالفات مسلكية تصب في الاتجاه الذي نحن بصدده، لبدت لنا الصورة قاتمة، ولبدا لنا أكثر، وكأن هناك قوى خفية تحاول إفشال الجهود التي تبذل لتعزيز مبدأ الشفافية والإفصاح والإخلاص، تساندها الظروف الاقتصادية السيئة لفئة كبيرة من الموظفين، لإرغام طالب الخدمة على فهم رسالة ضعاف النفوس، رغم أن تلك الظروف، وإن تفاقمت بفعل موجة الغلاء التي سحبت معها أي أثر للزيادة في رواتب الموظفين، حصلت مرتين خلال السنتين الأخيرتين، لا يمكن قبولها كمبرر للرشوة، ناهيك من أي ممارسات سلبية أخرى!
ولكي نتخيل الصورة كاملة أمامنا، نشير إلى أنه قبل فترة من الزمن استيقظت ضمائر بعض الموظفين الذين أخطأوا في حق أنفسهم، وفي حق الوطن، فأبدوا لوزارة المالية رغبتهم في إعادة ما حصلوا عليه من أموال دون وجه حق، في محاولة منهم للتكفير عن أخطائهم وإبراء ذممهم، بعدما انتهى مشوارهم الوظيفي، وهو ما دفع الوزارة إلى فتح الباب لمن يريد الاستجابة لنداء ضميره، وفتحت حسابا لهذا الغرض في مصرف الراجحي أسمته (حساب إبراء الذمة) ورقمه للتذكير هو (26608010510005)، بعدما استأذنت في ذلك المقام السامي، حيث بلغ جملة ما أودع فيه مبلغ 150 مليون ريال، خلال أقل من ثلاث سنوات (صحيفة "اليوم" 16/2/1429هـ)، وخصصت حصيلة هذا الحساب لإنفاقها في تمويل الأغراض الاجتماعية التي تتطابق مع أهداف بنك التسليف والادخار، مثل دعم الأسر المحتاجة، وقروض الزواج وترميم المنازل! ولعل ما يستشف من وضع هذا الحساب والإقبال على الإبداع فيه، هو مقدار ما كان يحصل من تجاوزات واستيلاء على المال العام دون حق، وأن النفس البشرية المسلمة مهما تغلّب عليها وازع الطمع، وغاب عنها نداء الضمير، وتذكرت مواجهة حساب اليوم الكبير، فسيأتي يوم تستيقظ فيه نزعة الخير وإبراء الذمة، وما من موظف اختلس أو ارتشى أو اعتدى على ما أؤتمن عليه، إلا سيقاسي عذاب الضمير، وصراع النفس، قبل أن يقوده هذا إلى الطريق الذي فتحته الدولة!
ولعلي أختم بالتذكير بأن مما يضيق ثغرات الفساد بصفة عامة هو التركيز في مسار أداء العمل الحكومي، على مبادئ يأتي في مقدمتها الأمور الآتية:
1 ـ الإسراع في تفصيل الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، التي صدرت قبل فترة، وما يأتي في إطارها من تكوين هيئة عامة لتحقيق الأهداف التي بنيت عليها الاستراتيجية، وكذا إصدار نظام حماية المال العام، وما يتطلبه ذلك من إنشاء كيانات مؤسسية تضمن تطبيقه.
2 ـ إعمال مبدأ الثواب والعقاب، سواء في محاسبة الموظفين المقصرين والمنحرفين، أو مكافأة الموظفين المجيدين، وفي ذلك تعزيز لقاعدة الإخلاص والتفاني في العمل، والردع والتذكير بالعقاب.
3 ـ تقوية ودعم أجهزة الرقابة والمتابعة مثل ديوان المراقبة العامة، وهيئة الرقابة والتحقيق، ومدها بالكوادر المؤهلة في مجال عملها.
4 ـ منح مجلس الشورى مزيدا من الصلاحيات، ولا سيما فيما يتعلق بعرض الميزانية العامة للدولة عليه، ومتابعة أداء الأجهزة الحكومية من خلال تقاريرها السنوية، ومن خلال مناقشة قيادات الأجهزة الحكومية في أدائها.
5 ـ الاعتناء بمعايير اختيار القيادات، ولا سيما في الوظائف ذات الصلة بالمال العام، بحيث تكون عوامل مثل السمعة الطيبة والنزاهة والإخلاص، في مقدمة عوامل التزكية لهذه الوظائف.
6 ـ إلزام شاغلي الوظائف التي يتولى شاغلوها أعمالا حساسة ذات علاقة بالمال العام بإعلان ذمتهم المالية قبل مباشرتهم تلك الأعمال، وإلزامهم كذلك بأداء القسم على الأمانة والإخلاص والمحافظة على المال العام.
7 ـ تقوية الوازع الديني، والتوعية بمضار الفساد، من خلال المناهج التعليمية، وخطباء المساجد، ووسائل الإعلام المملوكة للدولة.
8 ـ استحداث جوائز وشهادات تقدير وأوسمة للإبداع والإخلاص، تمنح دوريا للموظفين المتميزين في أعمالهم.