رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


معايير لي كوان يو

[email protected]

في اللقاء الذي نظمه منتدى الرياض الاقتصادي قبل عدة أسابيع واستضاف فيه لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة السابق، أحد أبرز القادة السياسيين والمخططين الاقتصاديين في العصر الحديث، تحدث لي عن معايير ثلاثة وضعها لاختيار المسؤولين في الدولة لضمان امتلاكهم القدرة والتأهيل الذي يمكنهم من القيام بمهامهم بكفاءة. أولها: أن يمتلك المرشح القدرة على التحليل، بمعنى أن يكون قادرا على استيعاب الواقع من حوله ما يجعله قادرا على تشخيصه ووضع الحلول المناسبة المصاغة بشكل سليم. الثاني: الواقعية، أو كما قال "أن تكون رجلاه على الأرض دائما"، أي ألا يكون حالما أولا يعرف حدود ما يمكن القيام به في ظل الموارد المتاحة, لذا فهو يستخدمها بكفاءة وحكمة. المعيار الثالث: امتلاك القدرة على قراءة المستقبل والتخطيط له بحيث لا يقف جامدا دون حراك ليفاجأ بالأزمات تتتالى أو يفشل في التخطيط لاقتناص وتعظيم القادم من الفرص.
تراكم مشكلاتنا الاقتصادية وتفاقمها يعود بشكل أساسي إلى عدم تحقق هذه المعايير الثلاثة في شريحة واسعة من مسؤولينا التنفيذيين جعلهم غير قادرين على قراءة الواقع من حولهم ولا استيعاب إلى أين سيأخذهم، بالتالي لم يضعوا خططا تساعد أجهزتهم التنفيذية على تفادي مشكلات كانت قادمة دون أدنى شك، وأصبحنا نفاجأ بالأزمات التي تنفجر من مكان إلى آخر. على سبيل المثال، فإن مسؤولا اقتصاديا لم يكن يدرك حجم الكارثة والخطر الداهم القادم جراء الارتفاع الجنوني في أسعار الأسهم، بل حتى يقول إن هذا الارتفاع دليل على قوة الاقتصاد السعودي، في وقت يرى فيه أن شركة مثل بيشة الزراعية التي قد لا تتعدى قيمة أصولها خمسة ملايين ريال قد ارتفعت قيمتها السوقية إلى ما يزيد على أربعة مليارات ، هو دون أدنى شك مسؤول لم يكن لينجح في اختبار لي كوان يو ولا تنطبق عليه معاييره.
أزمة الإسكان التي نعانيها حاليا مثال واضح على قصور في قراءة واقع الإسكان والتخطيط السليم له بهدف تحاشي أزمات مستقبلية كانت قادمة بكل تأكيد، قد لا نكون رأينا حتى الآن إلا جزءا يسيرا منها. هذه الأزمة تأخذ أشكالا عديدة لعل أبرزها وأهمها الارتفاع الكبير في أسعار العقارات, خاصة الأراضي البيضاء، الذي أدى إلى وصول أسعارها إلى قيم أصبحت معه خارج متناول شريحة واسعة جدا من أفراد المجتمع، في وقت يجري فيه ابتزازهم من قبل ملاك جشعين استغلوا محدودية عرض الوحدات السكنية، فأصبحوا يرفعون عليهم الإيجارات بشكل متتال وبمعدلات عالية أرهقت كواهلهم وزادت معاناتهم المالية.
في ظل هذه الظروف غير الطبيعية التي تتطلب حلولا غير عادية لهذه الأزمة الإسكانية المتفاقمة يأتي من يقول إن الحل السحري هو في نظام الرهن العقاري، أي أن نحل الأزمة بمزيد من الطلب الذي سيدفع أسعار العقارات إلى ارتفاع أكبر. غير مدركين أن حل مشكلة الإسكان لا يمكن أن يكون من خلال حلول تفاقم المشكلة، باعتبار أن إقرار نظام الرهن العقاري يتوقع أن يترتب عليه زيادة في الطلب على تملك الأراضي والوحدات السكنية من قبل أفراد أعياهم البحث عن مسكن مناسب، ما سيرفع أسعارها إلى قيم أكبر بكثير مما هي عليه الآن رغم ارتفاعها الشديد. ومعظم هؤلاء الأفراد لا يملك حتى المعرفة الكافية التي تؤهله لاستيعاب الأعباء التمويلية التي سيتحملها في سعيه لامتلاك منزل، وسيكون عرضة للتغرير به واستغلاله من قبل البنوك لمنحه قرضا قد تبلغ تكاليفه التمويلية أضعاف قيمته الفعلية، من خلال احتساب الفوائد بطريقة احتيالية تدليسية تمكن البنوك من تحصيل فوائد باهظة تثقل كواهل المقترضين، ليس لسنوات، كما هو الحال في قروضها الشخصية حاليا، وإنما لعقود عديدة قادمة. وعندما يفشل أو يعجز المقترض عن السداد فحق هذه البنوك مضمون ببيع عقاره المرهون، ليكتشف هذا الشخص أن نظام الرهن العقاري الذي اعتقد أنه وجد فيه ضالته قد زاد من معاناته وفاقم مشكلاته المالية.
ارتفاع مديونية الأفراد في ظل الارتفاع الهائل في حجم القروض الشخصية، حيث تتجاوز قيمتها حاليا 180 مليار ريال، وكون هؤلاء الأفراد هم أنفسهم المستهدفون بنظام الرهن العقاري، يعني أن هذا النظام، وفي ظل الارتفاع الفاحش في أسعار الأراضي والعقارات، لن يحل أزمة وإنما سيخلق أخرى، وأن تأخرنا الشديد في التعامل مع الأزمة الإسكانية، وعجزنا عن طرح أفكار عملية تسهم في حلها فعلا، جعلنا نتوهم أن الحل في مفاقمتها، أو أن نكون كمن يصب الزيت على نار ليطفئها، ما يؤكد حاجتنا الماسة إلى تطبيق معايير لي كوان يو.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي