إدارة "البشت"!

منذ مدة ليست بالقصيرة وأنا أحدث نفسي عن أمر لا أراه إلا أنه يجب أن يحدث يوماً ما، هذا الأمر كان سببه أيام الدراسة الجامعية، وبحكم التخصص تطلب الأمر دراسة بعض المدارس الإدارية التي برزت عالمياً، وأصبح لها بصمات على الأساليب الإدارية والمالية في كل أصقاع الأرض مثل إدارة المخزون حسب الطريقة اليابانية، ثم بعد ذلك وبعد أن تقدمنا في الدراسات الإدارية والمالية أصبحنا ندرس الفكر الإداري حسب الأعراق مثل العرق الإنجلوسكسون في عرض القوائم المالية، وكيف أن شركة ما تحقق مكاسب حسب معايير محاسبية في بلد مثل ألمانيا، وعندما يعاد عرضها حسب المعايير الأمريكية GAAP نجد أن الشركة تحولت من الربح للخسارة، وأذكر شركة كرايسلر بنز كمثال واضح على ذلك الاختلاف الذي يأتي نتيجة الثقافة الاجتماعية لهذا البلد أو ذاك التي تنسحب على المعايير والأنظمة. وكذلك عندما دخلنا في تفاصيل تلك الدراسات وجدنا أن لكل دولة تفاصيل أكثر حول فكرها الإداري النابع من ثقافتها. المهم أن البعد الثقافي والاجتماعي محرك رئيس للجوانب الإدارية والمالية والاقتصادية حتى السياسية. وهنا لا نأتي بجديد، لذلك تسمى علوم اجتماعية، ما يعني أنها تنبع من المجتمع، وليست من خارجه، مع ضرورة الإيمان بتلاقح الحضارات فيما بينها لأنها تاريخياً امتداد لبعضها.
هذا الأمر أثار سؤالا منذ ذلك الوقت ما لبث أن توالت الأسئلة حوله وتشعبت إلى اليوم وشكلت متوالية لا نهاية لها! ولم أجد لتلك الأسئلة إجابات شافية، لأننا لا نزال بحاجة إلى المزيد من الدراسات والبحوث التي على الأقل كنا نتمنى أن يشغل بها بعض الأكاديميين أوقاتهم أفضل من الشكوى والتذمر! مع الاحترام للبعض ممن أبدعوا وأنجزوا وبالتالي استحقوا أن يكونوا روادا في تخصصهم الأكاديمي! ولكن بالمجمل الجميع مقصر في هذا المجال وعلى رأسهم جمعية الإدارة السعودية، ولكن يبدو أنها تأخذ بمقولة الموت مع الجماعة رحمة، فحالها لا يزيد ولا ينقص عن حال بقية الجمعيات المهنية!
السؤال الرئيس ببساطة هل لدينا نحن في المملكة أسلوب إداري يميزنا يمكن أن نطلق عليه "المدرسة السعودية" أو "الأسلوب السعودي" أو "الطريقة السعودية"!؟ ثم تأتي أسئلة متعددة مثل: هل يوجد مواصفات لتلك الإدارة إن وجدت؟ وتلك المواصفات؟ وما نقاط القوة والضعف فيها؟ هل أثرت المدارس الإدارية التي سبقتنا في ولادة أسلوب إداري ذي طابع خاص بنا يحمل صفات المجتمع وتركيبته؟ ما مدى تأثير المدارس التي شاركت في بدايات التنمية السعودية، سواء العربية أو الدولية على الأسلوب المحلي الإداري؟ وهل كان هناك تأثير سلبي لمدراس معينة تحديداً في نقل البيروقراطية، وبعض مظاهر الفساد الإداري عندنا؟ لماذا لا نرى تأثيرا للتجارب الناجحة لدينا على الأسلوب الإداري العام والخاص (أين العدوى الإدارية الإيجابية؟) كتجربة 75 سنة لشركة مثل أرامكو وشركات خاصة التي تمتد تجاربها إلى نحو القرن، ومع ذلك لا نسمع الكثير عنها رغم أنها تعيش قصص نجاح كبيرة؟ هل يمكن تحويل الكثير من التجارب العامة والخاصة إلى حالات عملية يمكن من خلالها تطوير الفكر الإداري السعودي وتقديمها كوجبات دسمة للقطاع الخاص والعام ولطلاب الجامعات، كما يفعل الغرب عندما يدرس طلابه حالات عملية وبالأسماء إلى الدرجة التي وصلوا فيها إلى تسمية بعض المدارس الإدارية بأسماء قادة إداريين نجحوا في تحقيق عمل مميز بأسلوب مستحدث وجديد؟ وكذلك يطرحون حالات كثيرة فشلت لمعرفة أسباب فشلها دون خجل أو وجل لأن الهدف أسمى وأعظم وهو تطوير أمة مقابل ثمن بسيط قد يكون كشف عيوب ليست شخصية بالضرورة، ولكنها قيادية لشخص أو أشخاص.
تبدو أسئلة كثيرة ولكن أعتقد أن الوقت حان للعمل بجد على دراسة تجاربنا وتوثيقها الإيجابي منها والسلبي لتحقيق هدف واحد وهو الوقوف على المميزات التي يمكن البناء عليها، والحد من السلبيات التي لا بد أنها موجودة كما هي الإيجابيات لدينا موجودة أيضا. وحتى لا أترك القارئ دون خيط لحبل أفكاره لماذا لا نبدأ "بالبشت" كما قال حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد عندما سئل في لقاء له في ألمانيا قبل عدة أسابيع حول غياب الديمقراطية في الخليج. فجاءت الإجابة مفاجأة للجميع وبالذات للمستمع المحلى رغم أننا نعيشها ومتعايشون معها عملياً، ولكن لا ننطق بها حرفياً. قال بالحرف وعلى ذمة الناقل الإعلامي لكلامه "لدينا ديمقراطية العباءة" حسب التعبير الإماراتي ويقصد "البشت" حسب التعبير السعودي! كلام جميل وفي الصميم.
وأنا أضيف أن لدينا أيضا "إدارة البشت" كامتداد لـ "ديمقراطية البشت". وقد يكون هذا العنوان مشروع كتاب في الإدارة السعودية أو الخليجية. وأقصد بها الأسلوب الإداري الذي ينتهج طريقة الشخصنة لحل كثير من الأمور الإدارية أكثر من أي أسلوب إداري آخر. وليس بالضرورة أن يكون عيباً، ولكن علينا دراسته ومعرفة منطلقاته الاجتماعية وبالتالي الخروج بمنهج عام تُوضع بصماتنا عليه، وربما نجد أن الغير يجده أمرا جيدا يمكن استخدامه، كما فعل العالم عندما تبنى العديد من الأساليب اليابانية في الإدارة والمالية في منتصف الثمانينيات الميلادية مع بداية الطفرة اليابانية.
آمل من أحد إخواني العاملين في الحقل الأكاديمي أن يفكروا في عمل دراسة علمية أو تأليف كتاب وأنا على استعداد للمساعدة في طباعته ونشره على نفقتي الخاصة إذا ما كان في المستوى العلمي المأمول، على الأقل حتى نستطيع أن نضيف لكتاب معالي الوزير الأديب الشاعر غازي القصيبي "حياة في الإدارة" نوع جديداً من الأساليب الإدارية والتي نقلها عن الغرب من "مدير هجومي" أو "مدير دفاعي" إلى "مدير البشت" وهي صناعة محلية بحتة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي