رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الآدمي والحيوان وأزمة الدقيق!!

[email protected]

قبل أيام قرأت تصريحاً للمدير العام للمؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق، قال فيه:"إن موزعين محليين يسربون الدقيق المخصص للمخابز إلى مربي المواشي لاستخدامه كعلف بديل للشعير!!- بعد أن طالته موجة الغلاء- ما أدى بدوره إلى تفاقم الأزمة" وهكذا يتغلب الحيوان على الآدمي في لقمة العيش!! وهذا الموقف يذكرنا بسنين خلت، كان فيها آباؤنا يحدثوننا عن الحمير التي تستأثر بأنواع من التمر دون (باقي) أفراد الأسرة، وكنا حينها يملكنا العجب من هذا الصنيع!! وها هو التاريخ يعيد نفسه، ولكن بطريقة أكثر تحضراً!
وفي ظل ذلك التصريح، وغيره، لم نر أثراً ملموساً في أرض الواقع إزاء هذه الممارسات غير المسؤولة، التي تبيع الدقيق الحيوان كما تبيعه الآدمي، ليقاسمه اللقمة، ويشاركه كسرة الخبز!! وفي ظل هذه الأخلاقيات الغريبة عن مجتمعنا، ومع ضعف الرقابة على التاجر، لا نملك كأفراد إلا أن نوجه نداء للتاجر، نخاطب فيه حميته، ونستثير فيه نخوته، ليقدم الإنسان على الحيوان في كيس الدقيق، ويؤثره في كسرة الخبز، لئلا تغلق المخابز، وينعدم الرغيف، أو يباع الواحد منه بريالين!! وأعظم ما يحرك في التاجر هذه الحمية، ويستثير فيه هذه النخوة، الوازع الديني، فالإيمان إذا زاد، وارتفع منسوبه، تزحزحت النفس نحو الخير، وتحركت نحو المعروف، ونحن لا نريد من التاجر إلا أن يحترم آدمية الإنسان، ويتلطف معه في المعاملة، وفي البيع والشراء، وأعظم ما يحفز التاجر لذلك إذا علم أن المسامحة من أعظم أسباب الرحمة، وأقرب أسباب المغفرة، ولا أظن أحداً في هذه الدنيا لا يريد مغفرة ذنوبه، فكلنا ذوو خطأ، وكلنا مذنبون، وكلنا نتطلع إلى مغفرة الله تعالى، فأين السبيل إلى مغفرة ذنوبنا التي بلغت عنان السماء؟
لنقف هنيهة مع هذا الموقف الإلهي مع عبد من عباد الله، ممن جعل الله تعالى الثروة في يده، لا في قلبه، فقد جاء في صحيح مسلم، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال:(أتي الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال: يا رب آتيتني مالك، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي!!) وفي رواية لمسلم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه؛ لعل الله يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه!!) فما أعظمها من مكرمة، وما أجزلها من هدية! إنها مكرمة إلهية وهدية ربانية لا تقاس بقيمة، ولا تقدر بثمن!! وهذه سنة كونية، وطريقة شرعية؛ إن الجزاء من جنس العمل، فقد كان هذا التاجر ينظر الموسر، ويتجاوز عن المعسر، فكافأه الله بالتجاوز عن ذنوبه!!! وهذا الموقف يذكرنا بموقف آخر، نبهت عليه خديجة - رضي الله عنها - وذلك حين فزع النبي - صلى الله عليه وسلم - مما رآه في غار حراء، أول ما نزل عليه الوحي، فقالت له بلسان المؤمن الواثق: (والله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمِل الكَلّ، وتُكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) قال العلماء:"معنى كلام خديجة رضي الله عنها: أنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشمائل، وذكرت ضروباً من ذلك، وفى هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق، وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء".
وبالمقابل، فإن التاجر إذا كان يدقق في حساباته، ويشدد في دخله وخرجه، فلا يتصدق من ماله، ولا يتسامح في بيعه وشرائه، فإنه سيحاسب بمثل صنيعه، ويدقق عليه، كما دقق على غيره، ولهذا جاء في صحيح البخاري، عن أسماء رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أنفقي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) والمعنى، كما قال العلماء:"لا تمنعي فيمنع عنك كما منعت، ويقتر عليك كما قترت، ويمسك فضله عنك كما أمسكت!!".
وإذا كان هذا الجزاء لمن منع الصدقة المستحبة، فما الظن إذاً بمن رفع على المسلمين الأسعار؛ ليرفع من هامش ربحه، ويزيد من أرصدته، حتى في ظرف الغلاء غير المسبوق الذي يمر به البلد!! بل ما الظن بتاجر يكذب، ويحتكر، ويدلس، ويغش؛ ليرفع من سقف ربحه بالحرام!! وهذا وأمثاله، هم من عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(إن التجار يحشرون يوم القيامة فجاراً، إلا من برّ وصدق) وقد ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم علة الفجور التي كثيراً ما يتصف بها التجار- إلا من رحم الله- حيث قال:(التجار هم الفجار، قالوا: أليس قد أحل الله البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويخونون فيكذبون) وأين هو التاجر اليوم الذي ينطق بصدق، ويحلف ببر، ويبيع بأمانة؟ والذي وعده النبي صلى الله عليه وسلم بوسام شرف يوم القيامة، حين قال فيه:(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) جعلنا الله تعالى منهم، آمين يا رب العالمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي