الدم والدين .. هاجس القنبلة الديموجرافية التي ستفجر اسرائيل
جوناثان كوك، كاتب وصحافي, من مواليد باكينجهام شاير, إنجلترا, 1965, حائز على شهادة الفلسفة من جامعة ساوثامبتون 1987, دبلوم صحافة من جامعة كارديف, حائز على شهادات تقدير في دراسات الشرق الأوسط من معهد الدراسات الإفريقية والشرقية في جامعة لندن، 2000. عمل محررا لدى صحيفة "الجارديان والأوبزيرفر", ونشر دراساته في صحف "التايمز" و"لو موند ديبلوماتيك" و"الهيرالد تريبيون" و"الأهرام" و"شبكة الجزيرة". وهو مقيم اليوم في الناصرة. من كتبه: الوجه الآخر لإسرائيل, كارثة في الذاكرة, والكفاح من أجل الاستقلال.
إذا كان الجدار الأسمنتي بأسلاكه الشائكة وأبراجه الأمنية, يرتفع إلى علو ثمانية أمتار بحيث لا تخطئه الأعين وهو يمضي ملتهما كروم الزيتون والحمضيات, ليطوق 2.3 مليون فلسطيني ضمن معسكر اعتقال كبير.. فإن جدارا آخر غير مرئي, جدارا زجاجيا مازال ينتصب بقسوة في عمق أراضي 1948 ليفصل العرب عن جوارهم الإسرائيلي ويحاصرهم ويحول حقوقهم في المواطنة إلى مجرد كلام على ورق. فهناك 1.3 مليون مواطن فلسطيني في إسرائيل، يشار إليهم عادة باعتبارهم "عربا إسرائيليين", ويشكلون خمس سكان البلاد, يعيشون حالة حصار بجدار خفي لا تراه عيون صحافة الغرب وساسته, وهذا الجدار منيع وصلب مثل صلابة الجدران المحيطة بالضفة الغربية وغزة, والغرض من الجدارين واحد: سجن الفلسطينيين وإجبارهم على الخضوع وإخفاء الاضطهاد الإسرائيلي لهم عن الأنظار.
هذا الكتاب يبين أن جدار إسرائيل الزجاجي هو عقبة كبرى في وجه السلام في الشرق الأوسط, وهو يشكل عائقا أكبر من جدرانها الأسمنتية والفولاذية التي يمكن هدمها بسهولة, فأحجاره التي بني منها ليست سوى الإجراءات والقوانين التعسفية التي استنتها إسرائيل عبر عقود لتجريد العرب من حقوق المواطن التي فرضت عليهم بالقوة أساسا, فالعربي يحتاج إلى تصريح من الحاكم العسكري للعمل خارج قريته أو لزيارة أقاربه, ومحظور على العرب تأسيس صحف مستقلة أو أحزاب وتجمعات سياسية, وغيرها من الإجراءات والقوانين التي تحول قراهم إلى سجون وحياتهم إلى معاناة دائمة في دولة مقسمة على أسس عنصرية دينية وإتنية.
أما المأزق الأكبر التي نشأت وعاشت عليه الدولة العبرية, فهو المحتوى التلفيقي لنظامها السياسي والقانوني باعتبارها دولة (يهودية ديمقراطية) بحسب ادعاء مؤسسيها, ويبين المؤلف أن المصطلحين لا يلتقيان دون إلغاء أحدهما للآخر, فلا "ديمقراطية" يمكنها أن تتعايش مع صفة "اليهودية" التي تعطي الأفضلية لمواطني الدولة بحسب انتمائهم الديني, وتمنعهم (حتى الإسرائيليين منهم) بالخروج من هذه الصفة, كما أن القوانين التي صدرت وعدلت حول قانون الجنسية (1952), والتي تمنع الزيجات بين عرب الضفة و القطاع وبين عرب الداخل, كما تمنع الزيجات بين الإسرائيليين والفلسطينيين, مثل هذه القوانين أقامت ولا تزال جدرانا لا نهائية تمزق الوطن إلى كانتونات جغرافية وسياسية ونفسية تزداد عزلتها يوما بعد يوم.
في الفصول اللاحقة يلقي المؤلف الضوء على الخطر الأكبر الذي يتهدد إسرائيل ووجودها وهو "القنبلة الديموجرافية", موضحا أسباب التغييرات الجذرية التي طرأت على القرارات السياسية لمتعصبين من أمثال شارون وباراك حتى يتحولوا إلى تأييد إقامة دولة فلسطينية (ولو كانت دولة بالاسم), ويتخلون عن مناطق كانوا يعتبرونها حتى فترة قريبة جزءا لا يتجزأ من أرض إسرائيل التوراتية مثل الضفة والقطاع (يهودا والسامرة), ففي لقائه مع آرنون سوفر رئيس قسم الجغرافيا السياسية في جامعة حيفا, يكشف لنا المؤلف عن أسباب هذا الموقف الجديد للقادة السياسيين في إسرائيل, فبرأي سوفر, ستشهد الـ 15 سنة المقبلة إما نهاية إسرائيل كدولة أو استمرارها وذلك تبعا لحكمة السياسة التي سينتهجها قادتها فيما يتعلق بالخريطة السكانية, "لم يعد بإمكاننا التفكير في إسرائيل الكبرى, علينا أن نفكر اليوم بشأن التقسيمات" لأن الفلسطينيين، ولا سيما في غزة, يتكاثرون بمعدل أكبر بكثير من نظيره عند اليهود, وبعد بضع سنوات سيكون هناك 6.5 مليون يهودي يعيشون بين عشرة ملايين فلسطيني.. وإذا كان باراك قد تعمد إجهاض اتفاقات أوسلو بإعطائه الفلسطينيين 70 في المائة من الأراضي الفلسطينية التي تشكل 22 في المائة من الوطن الأصلي, فقد تسبب الإعلان عن خريطة الطريق في أواخر 2002 في دفع متعصب كشارون إلى اعتناق فكرة الفصل التي أدرك سلفا أنها الحل الوحيد لمشكلة إسرائيل السكانية وأنه من الأفضل المبادرة إلى تنفيذها بأقل خسارة ممكنة في الأراضي وإجهاض خريطة الطريق التي قد تعطي الفلسطينيين أكثر من هذا بكثير. وهكذا جاء الإعلان المفاجئ عن الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة للتخلص من قنبلة سكانية بحجم 1.5 مليون فلسطيني سيزداد عددهم إلى الضعف بعد جيل واحد فقط.. وقد كان شمعون بيريز واضحا جدا بهذا الخصوص في لقاء له مع هيئة الإذاعة البريطانية عندما قال: "نحن ننسحب من غزة لأسباب ديموجرافية".
وبخصوص المواقف المتباينة بين اليمين واليسار الإسرائيلي فيما يتعلق بعرب الداخل, فقد تبين أنه لدى الاقتراب من قضية بهذا الحجم، تتلاشى الحدود ما بين يمين ويسار إلى حد أن يساريا مرموقا مثل بيني موريس يعلن صراحة أن "زعماء الصهيونية قبل تأسيس الدولة قد فشلوا في رسالتهم التاريخية لإنشاء دولة يهودية كليا عندما سمحوا لبقية من السكان الفلسطينيين بالبقاء داخل حدود إسرائيل خلال حرب 1948 فقد أصبح الـ 150 ألف فلسطيني أكثر من مليون عربي اليوم, وهم يشكلون نوعا من القنبلة الموقوتة في قلب إسرائيل نفسها, لقد تردد بن جوريون وارتكب بتردده خطأ سياسيا قاتلا عندما توقف عن إزالة الوجود العربي نهائيا من أراضي 1948 وكان هذا بإزالة المشكلة السكانية بشكل نهائي"، أما بالنسبة لشكل التعامل مع الفلسطينيين فهو "إقامة شيء مثل القفص حولهم, وأنا أدرك أن هذا يبدو شيئا فظيعا, إنه شيء وحشي بالفعل, لكن لا يوجد خيار آخر, فهناك حيوان مفترس ينبغي حبسه بطريقة أو أخرى".