استراتيجية الخدمات الصحية في ظل غياب هيئة منظمة
حققت بلادنا نجاحا في خصخصة قطاع الاتصالات مما أسهم في توليد قوى سوقية تدفع بالقطاع إلى أعلى المستويات، مما مكّنه من تقديم أرقى الخدمات وأجودها بأنسب الأسعار في ظل تنافسية حقيقية تحت إشراف هيئة الاتصالات التي قامت بتنظيم هذا القطاع وحماية المتعاملين فيه، إضافة إلى تيسير الاستثمار فيه كسوق واعدة، وهو ما أسهم في استقطاب شركات إقليمية محترفة للاستثمار في سوق الاتصالات السعودية الكبيرة التي نتوقع لها المزيد من التطور.
اختفت وزارة البرق والبريد والهاتف وتحولت التكاليف التي تثقل كاهل الحكومة إلى إيرادات ترفد خزانة الدولة بمليارات الريالات سنويا، وتطورت الخدمات الشحيحة والبائسة عالية التكلفة إلى خدمات ميسّرة وراقية ومعقولة ومتناولة التكلفة في أقل من عشر سنوات، وكلنا ثقة بهيئة الاتصالات التي تتخذ قرارات عقلانية بعيدة عن الأهواء والعواطف والروح التنافسية مع مقدمي الخدمة لكونها جهة تنظيمية لعناصر تلك السوق العملاقة دون مزاحمة عناصرها بأي شكل من أشكال المزاحمة التي تقوم بها الوزارات المنظمة.
الخدمات الصحية خدمات أساسية يحتاج إليها كل مواطن، وهي دون أدنى شك أكثر أهمية من خدمات الاتصالات التي يصنف الكثير منها في خانة الكماليات المهمة، لكن للأسف الشديد ما زالت تلك الخدمات دون المأمول، وهو ما اعترف به وزير الصحة معالي الدكتور حمد المانع، وبكل شجاعة، في لقاء له مع الإعلاميين نشرته صحيفة "عكاظ" بتاريخ 3/4/2007، حيث أوضح أوجه القصور في أداء وزارة الصحة رغم الجهود المخلصة والحثيثة للدولة في سبيل الارتقاء بالخدمات الصحية في المملكة وما تضخه من ميزانيات ضخمة للصرف على هذا القطاع والتي وصلت إلى أكثر من 30 مليار ريال سعودي.
وإذا كان هذا هو الوضع في وزارة الصحة فلا شك أنه في الجهات الأخرى ليس بأفضل حالا، خصوصا أن المؤسسات الحكومية الصحية المتخصصة في تقديم الخدمات لمنسوبيها مثل المنظومة الصحية في الحرس الوطني، والمستشفيات العسكرية في وزارة الدفاع وغيرها تعاني تدفق المواطنين من خارجها مما أثر في مستوى جودة خدماتها وتشتكي من الطلب المتزايد على خدماتها الطبية بما لا يتناسب وطاقتها. أما القطاع الخاص فحدّث ولا حرج، خصوصا في ظل ضعف أو غياب بعض عناصر المنظومة الصحية مثل شركات التأمين ذات الخبرات المتراكمة في مجال التأمين الصحي، إضافة إلى غياب هيئات فاعلة في ضبط الجودة.
وللحقيقة أقول إن لدينا قاعدة أكثر من متينة للنهوض بهذا القطاع المهم والحيوي والأساسي بالنسبة لكل مواطن ومقيم، والخروج به من المأزق الذي أشار إليه معالي وزير الصحة الدكتور حمد المانع، فلدينا أكثر من 45 مليار ريال تصرفها الحكومة على القطاعات الصحية كافة، ولدينا مستثمرون يرون واعدية ربحية في هذا القطاع، ولدينا شركات تأمين عالمية بدأت تتقاطر على بلادنا، ولدينا مجلس خدمات طبية يختص بإعداد استراتيجية الرعاية الصحية في المملكة تمهيداً لاعتمادها من مجلس الوزراء، ووضع التنظيم الملائم لتشغيل المستشفيات التي تديرها الوزارة والجهات الحكومية الأخرى، بحيث تدار وفقاً لأسس الإدارة الاقتصادية ومعايير الأداء والجودة والنوعية، ووضع وإقرار سياسة التنسيق والتكامل بين جميع الجهات المختصة بتقديم الرعاية الصحية، ولدينا أيضا مجلس لاعتماد جودة المنشآت يتكون من إخصائيين في الجودة في مجالات الطب السريري, والتمريض, والصيدلة, والمختبرات, ومكافحة العدوى, وسلامة المنشآت, والإدارة الصحية.
والسؤال هو: لماذا لا يمكن لهذه القاعدة الصلبة أن تنهض بالقطاع الصحي إلى المستوى الذي نصبو إليه جميعاً؟ بالنسبة لي السبب واضح جدا ويتلخص في غياب هيئة حكومية منظمة تقتصر مهامها على تنظيم القطاع وحماية المتعاملين فيه وتيسير العمل والاستثمار فيه لمن يرغب في ذلك، فوزارة الصحة التي تقوم بهذا الدور حاليا لا يمكن لها القيام بذلك وهي مقدمة خدمة كغيرها من الأطراف، فهي تطور الوحدات الصحية والمستشفيات وتمولها وتشغلها، وهذا ما يجعلها تقدم خطوة وتتراجع أخرى، فقراراتها تتداخل فيها الأبعاد العقلانية والعاطفية معا بخلاف الهيئات المنظمة التي تتفرغ لتنظيم القطاع وتطويره دون تقديم أي نوع من أنواع الخدمات الصحية.
ولا شك أن مجلس الخدمات الصحية يشكل اللبنة الأساسية لمثل هذه الهيئة المنظمة، إذ يمكن بتطوير آليات هذا المجلس فقط وتحويله من مجلس تنسيقي إلى مجلس تنفيذي قادر على إصدار اللوائح المنظمة الملزمة ومتابعة تطبيقها، مجلس يرأسه محافظ أو أمين بدرجة وزير وله مقره وموظفوه – كما هو حال هيئة السوق المالية على سبيل المثال لا الحصر – ليكون لديه القدرة على إعداد استراتيجية الرعاية الصحية المنتظرة من أعوام طويلة وتطبيقها والبدء الجاد في تحويل مستشفيات الحكومة إلى القطاع الخاص وفق جدول زمني معلوم، والعمل على تعزيز قوى عناصر منظومة السوق الصحية لتحقيق الاستدامة المستهدفة، فاليوم سبع سمان ولا نعلم متى السبع العجاف - وقانا الله من شرورها.
ختاما، إن المواطن البسيط المستهدف من وراء المليارات المخصصة لوزارة الصحة والمؤسسات الصحية الأخرى لا تهمه الأرقام والوعود والبشارات، بقدر ما يهمه الواقع حيث يرغب في الحصول على الخدمة الصحية المثلى في الوقت المناسب دون هز ميزانيته التي تتكالب عليها الطلبات، ومعالجة الوضع الحالي حيث الانتظار في أقسام الإسعاف والمواعيد الطويلة التي أصبح كثير ممن يحملها في جيبه من أصحاب القبور، فهل من أمل في تطوير مجلس الخدمات الصحية لهيئة منظمة تفعل القطاع وترفع كفاية الأموال المصروفة ليجد المواطن ما يسره. كلنا ثقة بذلك في ظل قيادة حكيمة جعلت هم المواطن في أعلى سلم أولوياتها.