فعاليات الفكر والثقافة والمجتمع المنتج
خلال الأسبوعين الماضيين شهدت العاصمة الرياض مجموعة من الأنشطة والفعاليات الفكرية والثقافية، وقد حظيت هذه المناسبات برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وفي مقدمة هذه الفعاليات مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة الذي تضمن فعاليات متعددة وحظي بحضور شخصيات سياسية وثقافية وفكرية، ولعل التنوع في الأنشطة التي تضمنها المهرجان تعطيه ميزة وخاصية, فهو كطبق فاكهة حيث يحتوي على الكثير من العروض, والفعاليات التي تناسب مختلف الشرائح, والفئات, فسباق الهجن له عشاقه, ومحبوه الذين يتطلعون لهذه المناسبة كل عام, وهم طوال السنة يعتنون بهجنهم ويدربونها, ويرعونها صحياً وغذائياً, وكذا يختارون المتسابقين الجيدين، كما أن المحاضرات والأمسيات الشعرية والثقافية نالت نصيبها من الاهتمام في هذا المهرجان منذ تأسيسه قبل ثلاثة وعشرين عاماً . وتلقى هذه الأمسيات والندوات حضوراً جيداً من قبل المهتمين بالفكر, والثقافة رغم أن زخم هذه المناسبات الثقافية كان في الماضي أقوى وذلك لكثرة الحضور. وحيث إن مهرجان الجنادرية يعطي فرصة لأبناء المناطق المختلفة في المملكة لعرض تراث الآباء، والأجداد في الملابس, والأواني, والبيوت, والزخارف والرقصات, والفنون الشعبية، إضافة إلى أساليب العيش, والمهن, والحرف السائدة قبل عصر التقنية الحديثة لذا فإن في مجمل هذه الأشياء دروس, وعبر تستفيد منها الأجيال, إذ هي فرصه لمقارنة كيف كان الآباء يعيشون ويدبرون شؤون حياتهم مع شظف العيش، وقلة الموارد, وكيف يعيش الجيل الحالي الذي توافرت له أسباب الراحة, والتقنية المتقدمة. إن المقارنة بين الوضعين فرصه لجعل الجيل الناشئ يفكر بصوره جدية بشأن الصعوبات, والتحديات التي واجهها الأهل في الفترة الماضية والإبداع الذي أحدثوه لمواجهة ظروف البيئة القاسية، والصعبة، ومع إدراك أن الظروف قد لا تستمر بالوضع نفسه الذي نعيشه وأن الحياة متقلبة وهذا هو طبعها وكما عبر عن هذا الشاعر بقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
لذا يكون لزاماً أن نسأل: هل من الممكن أن تتحول هذه التظاهرة التي تتكرر سنوياً في الجنادرية إلى مختبر, وورشة عمل يتدرب فيها النشء الجديد على حرف, وصنائع الماضي ويكتسبون الخبرة والمهارات ذات العلاقة بهذه المهن وينهلونها من أصحابها الذين يجيدونها. إن في مثل هذا العمل نقل للخبرة من جيل إلى جيل وفيه فائدة اقتصادية لأن هذه الصناعات القديمة يمكن تصديرها لمجتمعات أخرى.
إن مناسبة الجنادرية وفعالياتها فرصة لتحقيق عدة أهداف منها الوعي بماضي البلاد وتاريخها, والظروف التي استحكمت في حياة الناس, وأثرت في معاشهم، كما أن من الأهداف التعريف بما لدى المناطق المختلفة من حرف وفنون, وزخرفة تظهر على الملابس, والأواني, وفي البيوت, وأدوات الزينة, والأكلات الشعبية وتصميم المنازل, وفي أدوات الحرب, والسلاح, وهذه المعرفة من شأنها تقوية العلاقات والروابط بين أبناء الوطن الكبير مما يزيد اللحمة. كما أن من الأهداف في ظني تقوية المشاعر الوطنية وتعزيزها وتعميق الانتماء الذي نجح أبناؤه في بناء وطنهم، وإحلال الإخاء, والمحبة بدل التناحر, والتنافر, والتقاتل حتى انصهر الجميع في بوتقة الوطن وشكلوا نسيجه المتكامل. إن تكريم بعض الشخصيات من أمثال الشيخ عبد العزيز التويجري يرحمه الله ومحمد جميل على ما قدموه من خدمة للثقافة والمجتمع, إضافة إلى سلام خادم الحرمين الشريفين على المعوقين يمثل ممارسة لغرس الوفاء والمحبة للجميع.
وإذا كان الماضي بجميع تفاصيله, ومكوناته, وشقائه, وظروفه القاسية هو جزء من إرث ومكونات الوطن وحفر آثاره على وجوه الآباء, والأجداد فإن الحاضر, والمستقبل سيتشكل على أيدي الأحفاد الذين لم يدركوا تلك الفترة ولم يكابدوا قساوة العيش، لكن تقريب الصورة وتمثليها لابد أن يحدث أثراً لدى الناشئة سواء في طريقة تفكيرهم, أو في اتجاههم, أو في القيم التي يتشربونها, ويتمثلونها في حياتهم. الجيل الذي خرج إلى الحياة, وهو لا يعرف كيف يجلب الماء، ولم يستخدم الإبل, والدواب كوسائل مواصلات بل استبدلها بالسيارة والطائرة، وحمل الجوال في جيبه واتصل بأقصى الدنيا, وأدناها سيدرك حتماً دوره المستقبلي في بناء الوطن، البناء الذي لا يقبل تراجعاً بل ينظر إلى مزيد من النمو والتقدم ومنافسة الأمم الأخرى بدل الاعتماد عليها في إنتاجها وعطائها. هذه الفعاليات والأنشطة لاشك أنها تمثل دافعاً, وحافزاً قوياً لمزيد من العطاء, والتضحيات في بناء الوطن المتكامل, والقوي، وهذا يتحقق إذا تمكنا من استثمار هذه المناسبات الاستثمار الأمثل وذالك بجعلها مناسبات تسلية، ومعرفة وتذكر للماضي، واستشراف لمستقبل مبني على حاضر مليء بعناصر القوه وتشكيل للأنفس وبناء للمهارات . إن تزامن هذه المناسبات الكبيرة وحدوثها في وقت واحد له فوائد وله سلبيات. ومن فوائده إمكانية حضور ضيوف المملكة والمدعوين لإحدى المناسبات حضور المناسبات الأخرى, فمن دعي لحضور جائزة الملك فيصل العالمية يمكنه حضور معرض الكتاب, أو مهرجان الجنادرية, أو جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز لحفظ الحديث النبوي, لكن من السلبيات لتزامن هذه الفعاليات فسيتمكن هو تفويت الفرصة على من لديه الرغبة في حضور هذه الفعاليات, وذلك لكثرتها وانعقادها في الوقت نفسه. ولعله من المناسب إيجاد هيئة تعنى بالتنسيق بين هذه المناسبات لتكون على مدى فترة زمنية أطول, واقترح أن تتم هذه المناسبات خلال شهري آذار (مارس) ونيسان (أبريل) من كل عام نظراً لتحسن الجو, وعدم تعارضها مع الاختبارات النهائية, ولو تحقق هذا فسيتمكن الكثير من حضور معظم الفعاليات, والأنشطة, وبدلاً من تقديم هذه الوجبة الدسمة مرة واحدة يمكن توزيعها, وتقديمها على شكل, وجبات متعددة, وهذا من شأنه استمرار إيجاد بيئة محفزة, ونشاطات جاذبة لفترة أطول بدلاً من ضغطها في فترة قصيرة, وما هذه الجدولة على مدى فترة زمنية أطول إلا تطبيق للمثل القائل إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة, فملء فراغ الشباب لفترة طويلة من السنة بمثابة تفريغ شحناتهم وطاقتهم وإشغال لهم في أمور أكثر فائدة بدلاً من انصرافهم لأمور لا تحمد عقباها. إن بناء الوطن البناء الأمثل لا يتحقق إلا ببناء أبنائه معرفياً, وروحياً وثقافياً, وقيمياً ووجدانياً, فهل هذه المناسبات تسهم في تشكيل الأفراد أم أنها مناسبات عابرة يزول أثرها بانتهائها؟!