تكوين الجمعيات التعاونية وسيلة لمحاربة الغلاء والاحتكار
يغيب عن المجتمع المحلي الكثير من الأنشطة الاجتماعية التعاونية في بعض المجالات، ولا سيما المجال الاقتصادي، حيث يُعد النشاط الجماعي التعاوني فيه إحدى الوسائل الناجحة للقضاء على الاحتكار، ومكافحة ارتفاع الأسعار، إلى جانب ضمان توفير السلع والخدمات الاجتماعية في الأحياء بأسعار معتدلة بصورة انسيابية، ومن فوائد هذا العمل نشوء وتعزيز التعاون والتقارب بين أبناء الحي الواحد، وتقوية أواصر التعارف والتضحية، وشيوع فكرة العمل الجماعي التطوعي بينهم، وخلق نوع من التنافس الذي يهدف إلى نبذ المصلحة الذاتية وانصهارها في محيط المصلحة المشتركة للجميع.
وما أقصده من طرحي هذا هو عدم وجود جمعيات تعاونية تعمل في مجال توفير المواد الغذائية والاستهلاكية، على نحو ما هو موجود في كثير من البلدان. وفي حدود ما أعلم فإنه لا توجد جمعيات تعاونية بالمعنى المتعارف عليه في الأحياء والمحافظات تعمل في هذا المجال، ويلمس المواطن فائدتها، وإذا وجد شيء من ذلك فإنه غالبا ما يكون وجودا على الورق، أو لا يرقى إلى مستوى ما ينتظر منها عادة. ومن المؤسف أنه رغم تعاقب الدورات الاقتصادية، وما أفرزته من مظاهر الاحتكار والتحكم، والاختناق في كثير من المجالات المرتبطة بمعيشة المواطن وحياته اليومية، فلم يشفع ذلك في بروز العمل التعاوني بمعناه المفهوم في هذا المجال، في ظل الركض المحموم خلف الماديات، والانشغال بتعزيز الذات، بعيدا عن التفكير في العمل المشترك، الذي يهدف إلى تحقيق مصلحة أفراد المجتمع بعامة، ولا سيما ذوي الدخول المتواضعة، وهم الغالبية من الناس.
ولعل التجربة الوحيدة في هذا المجال، التي فشلت بُعيد ولادتها بفترة قصيرة هي الجمعية التعاونية لموظفي الدولة، التي دعت لها واحتضنتها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (آنذاك) في الثمانينيات من القرن الماضي، ودعت موظفي الدولة إلى المساهمة فيها، فتسارع الموظفون برغبة قوية إلى دفع أموالهم فيها رغم ضآلة رواتبهم في ذلك الوقت، مدفوعين بثقتهم بالجهة الحكومية التي دعت إليها وتشرف عليها، وحدث أن تكونت الجمعية وبدأت ممارسة عملها بافتتاح أول مخازنها، وكان موقعه في حي الشميسي أمام المستشفى المركزي، بيد أنها سرعان ما فشلت وأغلقت أبوابها بسبب فشل من أوكل إليهم شأن إدارتها، حتى إن الفشل امتد إلى إخفاق الجهة الحكومية المسؤولة عنها في إعلان نتائج تصفيتها وحساباتها، أو تحديد من كان المسؤول عن فشلها وتقديمه إلى أي نوع من المساءلة العادلة. وظل التعتيم يغلف ملفاتها القابعة في مكان ما من الوزارة المعنية حتى الآن، في الوقت الذي ظل فيه الموظفون يحتفظون بوثائق المساهمة فيها كنوع من الذكريات البائسة، ولم يُعد لهم حتى الجزء المتبقي منها بعد التصفية.
ولعل فشل تلك الجمعية، والسكوت عن إعلان نتائجها وأسباب فشلها هو ما تسبب في عزوف الناس عن إنشاء بدائل لها، رغم شدة الحاجة إلى ذلك، وكأن فشل الفكرة قد انسحب على بقية الأفكار المشابهة، ولو عرف الناس، وبالذات مساهموها الأسباب الحقيقية للفشل لتم تداركها، ولتم إنشاء جمعيات أخرى فيما بعد.
الآن مع تغير الأزمان والأوضاع، وتشوه المبادئ الاقتصادية التي تقوم عليها معايير التجارة الحرة النزيهة، ببعض الممارسات التي تجري في أرض الواقع، من احتكار، إلى استغلال لأي فرصة لرفع الأسعار، إلى محاولة تنمية المكاسب باستغلال حاجة الناس، والتحكم في أقواتهم، إلى التكتل والاتفاق على رفع الأسعار، لم يعد ثمة مندوحة من العودة للتفكير الجدي في إنشاء الجمعيات التعاونية الاستهلاكية والاستفادة من التجربة السابقة بالعودة إلى ملفاتها، والتعرف على أسباب فشلها لتجنبها، والاستفادة كذلك من تجارب الجيران من حولنا، ففي الكويت مثلا تلعب الجمعيات التعاونية في الأحياء دورا مهما في حياة المواطنين، ويعتمدون عليها في توفير كثير من السلع الاستهلاكية والخدمات بصورة منتظمة، وبأسعار تقرب من أسعار التكلفة، وهي لا تستهدف الربح بقدر ما تكتفي بتغطية التكاليف التشغيلية والإدارية المنضبطة بفعل مساهمة المواطنين المستفيدين من خدماتها في إدارتها والإشراف عليها، وقد أسهم ذلك كله في غياب الممارسات الاحتكارية والارتفاع الحاد في الأسعار، بل في ضبط التضخم في حدوده الدنيا.
وفي الإمارات تلعب الجمعيات التعاونية دورا كبيرا في مكافحة الغلاء، إذ تناولت الصحف أخيرا أخبارا تفيد أن الحكومة أرسلت رسالة قوية إلى التجار عندما قامت بتوقيع اتفاقية مع جمعية الاتحاد الوطنية التعاونية تطرح بموجبها الجمعية 16 سلعة غذائية أساسية بسعر التكلفة تشمل الرز، زيوت الطعام، الدجاج، اللحوم، السكر، الحليب المجفف، والشاي، واعتبرت المجال مفتوحا لانضمام بقية الجمعيات إلى هذا الاتفاق. ("الاقتصادية" 5/3/1429هـ)
أما نحن وكما هي عادتنا في الاستيقاظ متأخرين، ما زلنا، رغم ما نراه من جشع واستغلال وتحكم واحتكار، نمشي ببطء شديد في تكوين جمعية حماية المستهلك، التي صدر القرار بتكوينها قبل تسعة أشهر، وربما نصحو متأخرين أيضا، على الانتباه لضرورة وجود جمعيات تعاونية للمواد الغذائية، وأن وجودها سيسهم مع جهود الحكومة وجهود جمعية حماية المستهلك في إحداث التوازن المطلوب، وتحقيق العدالة والمنافسة الشريفة، في مجال توفير مستلزمات حياة المواطن، دون الإضرار بأي طرف.
ومن ثم فإنني، باسم الشريحة الأكبر والأحوج، من المواطنين، أوجه الدعوة إلى كل من وزارة الشؤون الاجتماعية، وجمعية حماية المستهلك إلى المبادرة بوضع الأسس اللازمة لقيام مثل تلك الجمعيات التي سيمثل قيامها دعما كبيرا للجهود التي تبذل في مجال حماية المواطن من الاستغلال والاحتكار.
والله من وراء القصد.