أحسنت صنعا يا رئاسة الحرمين
الخبر المنشور في جريدة "الوطن" يوم الجمعة حول الشكوى المرفوعة إلى ديوان المظالم ضد الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي من قبل بعض منسوبيها لرفضها تحويل رواتبهم إلى البنوك بدعوى حمايتهم من التورط في قروض شخصية بضمان الراتب، كما هو حال معظم العاملين في القطاع العام، يؤكد أن هذه الإدارة تحاول مشكورة القيام بما كان يجب أن تقوم به مؤسسة النقد، وهو حماية الموظفين من استغلال وإغراء البنوك لهم بالاقتراض بعد تحويل رواتبهم إليها، الذي تسبب في نمو هائل في القروض الشخصية، أصبحت معه عبئا ماليا ضخما يثقل كاهل نسبة كبيرة جدا من ذوي الدخول الثابتة الذين رُهنت رواتبهم لسنوات عديدة قادمة. ورئاسة الحرمين، فيما يبدو، كانت أكثر صلابة من المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية التي حاولت جاهدة حماية المتقاعدين من التورط بقروض شخصية، إلا إنها استسلمت أخيرا أمام الضغوط ووافقت على ضمان تحويل راتب المتقاعد إلى البنك، وهو ما سيكون له نتائج مدمرة على مستويات معيشة الكثير منهم بعد تورطهم في قروض شخصية.
البعض يعتقد أن المشكلة في النظام السريع الذي أتاح تحويل رواتب الموظفين مباشرة إلى البنوك، بينما الواقع أن المشكلة جاءت من سماح مؤسسة النقد للأجهزة الحكومية والخاصة بإصدار خطابات للبنوك تضمن بها تحويل راتب الموظف إلى البنك، حيث لا يسمح للموظف تغيير البنك الذي يُحول راتبه إليه إلا بعد حصوله على إخلاء طرف، ما مكن البنوك من التوسع في الإقراض الشخصي بضمان الراتب. وكما هو معروف فإن القروض الشخصية تتصف عادة بارتفاع مخاطرها وبالتالي تتحاشى البنوك التوسع فيها، إلا أن ضمان تحويل الراتب للبنك أنهى معظم إن لم يكن كل مخاطر القروض الشخصية، فأصبحت البنوك تتسابق لاقتناص الموظفين من خلال إغرائهم بقروض شخصية ادعت زورا أنها "ذبحت على الطريقة الإسلامية" وبتخفيضات متتالية في أسعار الفائدة في ظل اشتداد حدة المنافسة بينها على هذا الصيد الثمين. لذا نجد أن القروض الشخصية قد ارتفعت في كانون الأول (ديسمبر) 2005 إلى ما يزيد على 181 مليار ريال، أو نحو 40 في المائة من إجمالي الائتمان المصرفي، في حين أنها لم تكن تتجاوز في 2001 مبلغ 38 مليار ريال، أو 20 في المائة فقط من الائتمان المصرفي، أي أنها تضاعفت أربع مرات تقريبا خلال أربع سنوات فقط، وحجمها اليوم يزيد على 182 مليار ريال.
والحقيقة أن أكبر خطأ ارتكبته مؤسسة النقد، وأدى إلى هذا الارتفاع الهائل في حجم القروض الشخصية، الذي وصفته رئاسة الحرمين في مرافعتها أمام ديوان المظالم بـ "الكارثة الوطنية"، وهو وصف أتفق معه تماما، كان سماحها للأجهزة الحكومية بإصدار خطابات للبنوك تضمن بها استمرار تحويل راتب الموظف إلى البنك. الأمر الذي استغلته البنوك بحد أدنى من المسؤولية الأخلاقية سعيا وراء الربح العالي متدني المخاطر الذي حققه لها توسعها في الإقراض الشخصي، خاصة أنها تمارس تظليلا متعمدا تخفي به حقيقة معدلات الفائدة التي تتقاضاها على هذه القروض حيث تبدو بنصف قيمتها الحقيقية، بالتالي تم استدرج أفراد المجتمع لاقتراض غير مبرر لتلبية احتياجات استهلاكية غير ضرورية أو للاستثمار في سوق أسهم كان على وشك أن ينهار.
بل إن البنوك وأمام وصولها إلى ما يمكن وصفه بكامل الطاقة الاستيعابية للإقراض الشخصي، بعد أن أصبح ما يزيد عن 90 في المائة من موظفي القطاع العام مدانين للبنوك، بدأت تحتال على مستخدمي بطاقات الائتمان بعرضها عليهم، من خلال اتصالات هاتفية، عدم تسديد المبالغ المستحقة على تلك البطاقات وتحويلها إلى قرض يسدد على فترة أطول، مستغلة حاجة الأفراد وعدم إدراك معظمهم حقيقة أن سعر الفائدة على قروض بطاقات الائتمان مرتفع جدا يتجاوز أحيانا 25 في المائة سنويا، لذا نجد أن قروض بطاقات الائتمان قد ارتفعت منذ انهيار سوق الأسهم وحتى الآن بنسبة 108 في المائة، وصولا إلى 8.9 مليار ريال بنهاية 2007.
إن معظم مشكلاتنا الاقتصادية الحالية ناتجة، في الأساس، عن قصور في أداء مؤسسة النقد، كما يبدو جليا من إخفاقها التام في إدارة السيولة المحلية الأمر الذي تسبب في تضخم سوق الأسهم ثم انهياره، وسلبيتها في حماية المستفيدين من خدمات البنوك وتركها الحبل على الغارب للبنوك لتورطهم في قروض ضخمة مستغلة ضمان تسديدها بتحويل رواتبهم إليها وكون معظمهم لا يدرك حجم العبء المالي المترتب عليه وحجم الكارثة التي تنتظره بتحمله قرض قسطه الشهري قد يستنزف نصف دخله ولا يستطيع تسديده دون معاناة وضائقة مالية، وقراءتها الخاطئة المستمرة لواقع سوق الصرف العالمية التي تسببت في جر عملتنا واقتصادنا إلى منزلق خطير لم نكن لنهوي إليه، خاصة في ظل الظروف الإيجابية غير المسبوقة التي نمر بها حاليا، لولا هذا القصور في أداء المؤسسة.