البرازيل تعيد عهد الاكتشافات النفطية الضخمة بـ "توبي"

البرازيل تعيد عهد الاكتشافات النفطية الضخمة بـ "توبي"

عاشر أكبر مستهلك للنفط في العالم والثالث على مستوى النصف الغربي من الكرة الأرضية، وهو البرازيل، يستعد لاعتمار قبعة جديدة: أن يصبح دولة لها ثقلها في ميدان الصادرات النفطية، وبكل ما يمكن أن ينتج عن هذا التطور من تفاعلات جيوسياسية. ففي مطلع هذا الشهر أعلنت شركة النفط الوطنية "بتروبراس" أخيرا عن اكتشاف أكبر حقل نفطي في المياه العميقة قرب الشاطئ الجنوبي الشرقي يمكن أن يبلغ حجم الاحتياطي المؤكد فيه ما بين خمسة إلى ثمانية مليارات دولار.
وحقل توبي، وهذا اسمه، يعيد إلى الواجهة عهد الاكتشافات الحقلية النفطية الكبيرة. وكان آخر نوع من هذه الحقول قد تم اكتشافه في كازاخستان عام 2000، الأمر الذي يثير شيئا من الأمل باحتمال تواصل هذا النوع من الاكتشافات ولو في المياه العميقة، حيث العمل أكثر تكلفة وأشد خطرا، لكن لا مفر من المخاطرة بالنسبة للصناعة النفطية التي تتقلص أمامها فرص البحث والتنقيب حول العالم.
ومع أن "بتروبراس" تعرف بالحقل وإمكانياته لأكثر من عام، إلا أنها فيما يبدو آثرت التأني حتى استكملت عمليات التقييم للاحتياطي، وبالتالي تمكنت من إعلان الأرقام المتعلقة به، وهو ما دفع الكثير من اللاعبين سواء على الساحة النفطية أو السياسية، لأخذ العلم بذلك والنظر في التبعات المترتبة عليه.
ففي غضون خمس سنوات يمكن للبرازيل أن تتقدم على المكسيك وكندا فيما يتعلق بحجم الاحتياطيات من النفط الخام، أي مع استبعاد ما يمكن أن تستخلصه كندا مثلا من نفط الرمال، وأن تحتل مرتبة تالية لفنزويلا، أكبر مصدري النفط في القارة الأمريكية. فللبرازيل في الوقت الحالي نحو 11.7 مليار برميل، وبلغ إنتاجها العام الماضي 2.2 مليون برميل يوميا، وهو ما يزيد 6 في المائة عن إنتاج النفط اليومي في العام الأسبق، ورفعه إلى 2.3 مليون. ويتوقع للإنتاج أن يبلغ هذا العام 2.32 مليون برميل يوميا، الأمر الذي يسمح للبرازيل أن تنتقل إلى مرتبة الدولة المصدرة، وهو ما سيتعزز العام المقبل عندما يبلغ حجم الإنتاج 2.64 مليون برميل يوميا، علما أن الاستهلاك اليومي في حدود 2.3 مليون برميل يوميا.
تحتل "بتروبراس" مكانة محورية في صناعة النفط البرازيلية، إذ تسيطر على 95 في المائة من العمليات، كما يعد ريو دي جانيرو أكبر إقليم منتج للنفط بنسبة 80 في المائة من إجمالي إنتاج الخام البرازيلي، خاصة من نوع مارلم، الذي تبلغ درجته وفق مقياس معهد البترول الأمريكي 19 وبمحتوى كبريتي يصل إلى 0.67 في المائة. وتم في الفترة الأخيرة فتح الباب أمام الشركات الأجنبية، وبرزت حتى الآن شركة رويال داتش شل، "ديفون"، و"شيفرون"، لكن فيما يبدو لم يتم اجتذاب أعداد كبيرة من الشركات.
وتحتاج "بتروبراس" إلى الاعتماد على خبرتها وما يمكن أن تحصل عليه من معارف في كيفية التعامل مع الحقول الموجودة في المياه العميقة والحفر على عمق 16 ألف قدم للوصول إلى الاحتياطيات النفطية الموجودة في القاع.
أما فيما يتعلق بميدان العمليات النهائية، فقد تم مد خطوط أنابيب على امتداد أربعة آلاف ميل، وتوجد في البلاد طاقة تكريرية في حدود 1.9 مليون برميل يوميا تتوزع على 13 مصفاة تقوم الشركة الوطنية بتروبراس بإدارة 11 منها. وأكبر هذه المصافي لديها طاقة تكريرية في حدود 360 ألف برميل يوميا، وهي مصفاة باوليني في ساو باولو.
اكتشافات الاحتياطيات الجديدة من النفط الخام تعزز من مكانة البرازيل كمنتج للطاقة، خاصة وهي قد سجلت ريادة فيما يتعلق بالطاقة البديلة مثل الإيثانول، إذ تعد أكبر منتج في العالم للإيثانول، للدرجة التي دفعت الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى زيارتها والاطلاع من كثب على تجربة البرازيل في تخفيف الاعتماد على الطاقة الأحفورية.
وللبرازيل تجربة تمتد على مدى يزيد على ثلاثة عقود من الزمان، إذ قررت اتباع خطة مختلفة للتعامل مع تبعات الصدمة النفطية الأولى وارتفاع الأسعار، وذلك باللجوء إلى خيار الإيثانول واستغلال قدراتها على إنتاج كميات كبيرة من قصب السكر وتحويله إلى طاقة.
وفي العام الماضي بلغ إنتاج البرازيل من الإيثانول 308 آلاف برميل يوميا يمكن أن ترتفع هذا العام إلى 329 ألفا و365 ألفا العام المقبل. وكجزء من الحملة القومية لمواجهة تبعات أزمة الطاقة، اتجهت البرازيل إلى ميدان التصنيع وجعل طاقة الإيثانول جزءا أساسيا في تسيير مختلف المناشط. وفي الوقت الحالي فإن أكثر من نصف السيارات العاملة في البرازيل تسير بطاقة خليط ما بين الأحفورية وتلك المشتقة من الإيثانول، بل إن كل ثمانية من عشر سيارات يتم بيعها تسير بخلطة الوقود هذه التي تعتمد على الإيثانول إلى حد كبير.
أحد التبعات السلبية للتحول إلى وقود الإيثانول المستخلص من قصب السكر أنه يتم على حساب منتج غذائي وبالتالي ستكون له انعكاساته في هذا الجانب. وعليه فاكتشاف احتياطيات جديدة وكبيرة من الوقود الأحفوري ستخفف من الضغوط الهادفة إلى استخلاص قدر أكبر من طاقة الإيثانول، وبالتالي استهلاك كميات أكبر من قصب السكر، ولو أن المسؤولين البرازيليين يصرون على أن هذا الاكتشاف أو حتى تحول البرازيل إلى منتج ومصدر للنفط الخام سيجعلها تتراجع قليلا في ميدان الطاقة البديلة والمتجددة، التي ترى أنها حققت فيها إنجازات تحتاج إلى المحافظة عليها، خاصة والعالم يكثف من جهوده في هذا الميدان.
حقل توبي المكتشف حديثا يمكن أن تكون له تبعاته السياسية كذلك سواء من قبل الجيران المباشرين في أمريكا الجنوبية من اللاعبين على الساحة النفطية، والإشارة إلى فنزويلا، بوليفيا وحتى الإكوادور، التي عادت أخيرا إلى استرجاع عضويتها في منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك".
ففنزويلا، وفي عهد رئيسها هوجو شافيز تعمل وبوضوح على استغلال ثروتها النفطية لدعم سياستها الشعبوية اليسارية، التي وجدت سندا لها بعد انتخاب إيفو موراليس رئيسا لبوليفيا، التي يفترض أن تقدم إمدادات الغاز إلى البرازيل وعبر شركة بتروبراس، لكن بسبب تغيير بوليفيا لسياساتها التسعيرية وسعيها إلى الحصول على عائد أفضل من الشركات الأجنبية عبر عملية التأميم التي أعلنها موراليس قبل عامين، فإن "بتروبراس" وجدت نفسها مضغوطة وذلك بسبب الاستثمارات الضخمة التي ضختها في مشروع الغاز الطبيعي للشركة في بوليفيا، ورغم أنه من الناحية السياسية البحتة، فإن حكومة البرازيل التي يتزعمها لويز لولا دا سيلفا محسوبة على اليسار المعتدل. لكن حتى بإضافة احتياطي حقل توبي، فإن إجمالي الاحتياطي النفطي البرازيلي لن يتجاوز 18 مليار برميل، في الوقت الذي تتمتع فيه فنزويلا باحتياطي يبلغ 80 مليارا، إضافة إلى الوقت الذي يحتاج إليه الحقل ليصبح منتجا وتصل إمداداته إلى السوق، أي بصورة أخرى، فإنه ليست هناك متغيرات ستلقي بظلالها مباشرة أو في المستقبل القريب جدا.
والاكتشاف سيحسن من فرص البرازيل في التعامل مع احتياجاتها المتنامية في مجال الطاقة من نفط وغاز، يوفر في الوقت ذاته خيارا لمستهلكين آخرين في القارة مثل الأرجنتين وشيلي، التي تعاني شحا في الإمدادات، كما أن لديها علاقة مضطربة مع كل من فنزويلا وبوليفيا. فالأرجنتين قامت خلال فصلي الشتاء الماضيين بقطع إمدادات الغاز عن شيلي لاستخدامها محليا، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى البحث يمنة ويسرة للتعويض، لكنها لم تجد في بوليفيا مصدرا مأمونا للإمدادات خاصة بعد عمليات التأميم التي أبعدت الشركات الأجنبية وأثارت بالتالي علامات استفهام عن القدرة على ضخ الاستثمارات المالية المطلوبة وتوفير القدرة الفنية لضخ الإمدادات اللازمة التي يحتاج إليها السوق، وهذا الوضع فاقم من الحاجة إلى تحقيق استقلالية في ميدان الطاقة بالنسبة للكثير من دول أمريكا الجنوبية.
ولوحظ أنه وبعد الإعلان عن اكتشاف حقل توبي قررت "بتروبراس" الانسحاب من مشروع الغاز الطبيعي في بوليفيا وذلك فيما ذكرت لأسباب تقنية واقتصادية، رغم أنها رسميا تبنت موقفا يقوم على أن قرار الانسحاب ليست له علاقة بالاكتشاف النفطي الأخير. والخطوة فيما يبدو تعد موقفا تفاوضيا حتى يمكن العودة إلى الطاولة مرة أخرى وبتبني موقف أقوى.
شافيز من جانبه, وصف رصيفه البرازيلي دا سيلفا أخيرا أنه أصبح بارونا نفطيا مجددا دعوته القديمة للبلدين أن يشكلا ناديا للطاقة في الأمازون، وذلك على غرار التجمع الذي يضم الدول الكاريبية الذي ظلت كاركاس تدفع في اتجاهه دون كلل أو ملل طوال سنوات حكم شافيز.

الأكثر قراءة