من فقه المقاصد

من فقه المقاصد

من جملة كمال الشريعة اتصالها بما يناسب الفطرة والطبيعة البشرية المعتدلة، فهي لم تتجه بأهواء الناس لأن الله بعث الرسل هادين إلى الحق الذي تتأخر النفوس البشرية بما هي عليه من الانفعال والتقلب عن إدراكه، وعن هذا ترى قول الله سبحانه: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)، فهذا مقام من تمام عدل الشريعة، وهذا كما يقع في مقام الإباحة يقع في مقام الأمر والنهي، فإن الشارع ينهى العباد لجملة من المقاصد ومنها قصد التخفيف عليهم، فإن الميل لهوى النفس هو ميل عن الفطرة وميل عن القدرة المتماسكة البشرية، وعن هذا ترى قول الله: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما. يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا).
فهذا السياق فيه اتصال بين مقام التشريع بالنهي ومقام التخفيف وهذا من أجل مقامات العدل والتمام، وإذا تحقق هذا في حقائق الشريعة ونصوصها فإن أهل الاجتهاد والنظر في أحكام الشريعة ينبغي أن يقصدوا إلى ضبط هذه المقاصد في تطبيق الأحكام، ولا يقع عن هذا أن الإغلاق يناسب هذا المقام، لكن من تمام الفقه وفاضل الحكمة أن يحقق هذا المقصد في الأحكام التكليفية الخمسة، وليس هذا مخصوصا بالمباح، وحين توصل أحكام الأمر والنهي بهذا المقصد "التخفيف" على مقام من تحقيق الاتباع لأمر الله ورسوله وحسن الاقتداء فإن الفقه الجامع ما يجمع جملة المقاصد، وليس ما يصير إلى مقام ويترك جملة من المقامات، فإن هذا يعرض لبعض الناظرين في فقه الشريعة من العناية بمقام من المقاصد مع نقص كثير في اعتبار غيره، وهذا مقام من الحال وإن لم يكن مقاما من المقال، والفقه قدر منه اكتساب وقدر منه جِبِلٌّ من الله، والله يؤتي فضله من يشاء وعن هذا حدث صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي موسى: « إن مثل ما بعثنى الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». والله الهادي.

الأكثر قراءة