ازدواجية المعايير
هذا المصطلح السياسي ينسب للعرب الذين يحسنون التشكي والشكوى وليس غيره، والذين هم وبلا فخر أول من استخدمه كجزء من شكواهم المستمرة من ردة فعل ما يسمي بالمجتمع الدولي عندما يلفه الصمت المطبق حيال الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ونسمع صوته عاليا مجلجلا عندما يمس كيان العدو بأي عملية استشهادية وفدائية أو إرهابية، حسب رؤية كل طرف، على ما يرتكبه من عدوان بتوجيه من ربانه الأوحد الولايات المتحدة، وأكثر ما ظهرت حقيقة هذه الازدواجية المقيتة والتي كم شكونا منها مر الشكوى مكتفين بأضعف الإيمان الأسبوع الماضي، فبعد دقائق فقط من تنفيذ العملية الانتقامية التي قام بها فلسطيني ضد معهد تلمودي يهودي، تخصص في تخريج عتاة المستوطنين العنصريين، في القدس، تعالت أصوات العالم منددة بها وسارع الرئيس بوش فورا بوصفها بالعملية البربرية، ولأنها وجهت ضد إسرائيل فلم يكتف بالتنديد اللفظي فقط، بل أسرع مجلس الأمن الدولي وفي نفس الليلة التي حدثت فيها بعقد جلسة وكأن الأمن والسلم العالميين يواجهان خطرا يستوجب تدخلا دوليا على هذا المستوى وبهذه السرعة ..!!، وهو ما لم يحدث والعالم يشهد على مدى أيام متتالية كيف واجه قطاع غزة عدوانا إسرائيليا اتسم بكل ألوان جرائم الحرب واستخدمت فيه القوة "المفرطة" حسب وصف السيد كي مون الأمين العام للأمم المتحدة مشكورا جدا ..!!، أو كما هدد وتوعد نائب وزير حرب العدو عشية بدء العدوان بتعريض قطاع غزة لمحرقة, وهو ما حاوله فعلا حين صبت حمم الطائرات والمدفعية والدبابات على المناطق السكنية وترويع الآمنين واستهداف حتى الأطفال الرضع ضمن حالة حصار مستمر منذ أشهر، ومع هذا لف المجتمع الدولي الصمت، ومن لم يصمت نطق بكفر على شاكلة تبرير ذلك العدوان بأنه دفاع عن النفس ..!!.
سياسة ازدواجية المعايير هي أبرز نتائج نظام القطب الواحد، وصورة لسياسة دولية جديدة ترسم وفق حدود القوة والضعف وليس الشرعية والقانون الدوليين، فالعالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال أحد القطبين، بات يدار وفق أهواء قوة واحدة شاء الله أن تكون باغية طاغية بحيث تبرر العدوان الكامل الأركان وجرائمه البارزة لكل عيان بأنه ممارسة للدفاع عن النفس، ومقاومة الاحتلال إرهاب وتهديد لعملية السلام، فعندما يقتل عشرات الفلسطينيين خلال أيام وفيهم أطفال رضع لا يثير اهتماما، وحين يصاب إسرائيلي واحد تقوم الدنيا ولا تقعد، وهو ما عبر عنه بيت شعر عربي وكأنه يصف ازدواجية المعايير كما هي مطبقة اليوم أبلغ توصيف حين يقول:
قتل فرد جريمة لا تغتفر
وقتل شعب مسألة فيها نظر
من سلبيات ازدواجية المعايير الأكثر خطورة هي دفع الشعوب للدفاع عن نفسها بالعنف وتقبلها لذلك، وهذا في تقبل العمليات الاستشهادية والإشادة بها، وسواء رضي الرئيس بوش أو لم يرض فقد عم الشارع العربي من المحيط للخليج ارتياح لعملية القدس، وهذا ليس لأننا نحن العرب نحب القتل وسفك الدماء ونشجع على الإرهاب، فنحن ضحايا ذلك .. وعلى الرئيس بوش أن يكلف من يقدم له إحصائية بكم قتل من الفلسطينيين خلال شهر واحد وكم نفق من اليهود .. بل لأنها شفت غليل احتقان بلغ الحلقوم نتيجة لسياسة ازدواجية المعايير المطبقة وبجدارة منقطعة النظير في الصراع العربي مع العدو الصهيوني، فالرأي العام العربي لا ينظر لمثل عملية القدس بأنها عملية إرهابية بقدر ما يرى فيها انتقاما مشروعا تجاه ما يرتكبه العدو الإسرائيلي ضد الفلسطينيين من عدوان مستمر منذ سنوات سماته الحصار والاقتحامات وارتكاب المجازر اليومي والعلني وآخرها ما فعله في غزة وما زال من جرائم تدمى القلوب وتثير ردود فعل يعبر عنها بمثل ما استقبلت به عملية القدس من ارتياح، فالمواطن العربي بل حتى الإنساني لم يعد يحتمل إطلاق يد كيان عنصري ثبت أنه ضد السلام ويستخدم قوته بالبطش والإرهاب ويخرج على كل القوانين دون أن يلام أو يردع بل تبرر له جرائمه ويحمى من أي مسألة قانونية، ويمنع الآخرون من حق الدفاع عن أنفسهم ومقاومة محاولات تصفيتهم والهيمنة عليهم متهمين بالإرهاب، فهذه الازدواجية في التعامل مع قضايا الشعوب لن تؤدي إلا لمزيد من الصراع وتأجيج دوافع الانتقام حتى ولو اضطر لاستخدام أساليب إرهابية، فالشعوب عندما تحاصر وتضام ويهدد وجودها وتحرم من أبسط حقوق الحياة، تلجأ لكل ما يمكن توافره لها لتدافع به عن نفسها، وإذا ظن أن القوة سوف تحسم الصراعات مهما تفوقت وغطيت بموقف سياسي مثل استخدام المجتمع الدولي على طريقة ازدواجية الرؤية لحماية العدوان وإدانة مقاومته، فهذا لن يقود لعالم آمن ومستقر، فما يعانيه العالم اليوم من اضطرابات وصراعات هو نتيجة لاختلال العدالة الدولية وسيطرة الشعور بالقوة وشهوة الهيمنة والسيطرة واستعمار العالم عن طريق تحوير القوانين وتفصيلها بما يتوافق مع سياسات معينة هي ما نسميه ازدواجية معايير من المؤسف أنها قصيرة نظر واستفزازية لأبعد مدى.