صناعة الكتاب.. صناعة الوعي والثقافة
مرت صناعة الكتاب وانتشاره في بلادنا بمراحل اتسمت بالبساطة في البداية وندرة الكتاب, وقلة من يقتنونه, مع قلة من يقرأونه، حيث لم يكن الكتاب موجوداً في كل بيت, وقد ارتبط الكتاب بمستوى التعليم الذي كان محدوداً في السابق ومقتصراً على تعلم العلوم الشرعية وعلوم العربية, من قبل نفر قليل جداً لكن مع انتشار التعليم, واتساع رقعته, ووصول المدارس إلى الهجر والقرى فضلاً عن وجودها في المدن بدأ الشعور بقيمة الكتاب يتسرب إلى أفئدة الناس, وعقولهم حتى أن بعض الأفراد ومن خلال سيرهم الذاتية في بدايات التعليم كانوا يوفرون من قوتهم بهدف جمع بضع ريالات تمكن من اقتناء كتاب شرعي, أو لغوي, وهي المجالات السائدة في البدايات. ومع زيادة عدد المتعلمين في البلاد, والانفتاح على الدول المحيطة بدأ أبناء الوطن في الاطلاع على كتب في مجالات متعددة حتى بدأت روح انتشار الكتاب واقتنائه تسير في دماء الكثير من المتعلمين, والمثقفين, ومع أن حالة الانفتاح هذه ترتب عليها وجود ثقافات وأطروحات جديدة, وغير مألوفة من قبل أفراد المجتمع مما يثير بعض المخاوف المشروعة وغير المشروعة إلا أن السعي لتوطين صناعة الكتاب تأليفاً, وطباعة, ونشراً بذرت بذرتها الأولى عندما شمر من سرت في عقولهم الثقافة ومن توافر لديهم وعي حول أهمية الكتاب في صناعة المجتمعات, ونموها, وتطورها. ولعل تجربة الشيخ حمد الجاسر في استيراد أول مطبعة لطباعة مطبوعة ثقافية بدلاً من طباعتها خارج البلاد كانت تجربة رائدة في حقل نشر الثقافة, والمعرفة رغم الصعوبات, والمعوقات التي تعترض هذا الأمر سواء كانت معوقات مادية أو إدارية أو اجتماعية لا ترى حاجة إلى مثل هذا الشيء وذلك لتدني المستوى الثقافي في تلك الحقبة, ومع افتتاح الجامعات, وزيادة المكتبات، ومحال بيع الكتب, وافتتاح المكتبات الخاصة بدأت الحاجة إلى الاتصال بمراكز طباعة ونشر الكتاب في عالمنا العربي في القاهرة, وبيروت, وبغداد, ودمشق, والتي كانت متقدمة في هذا الشأن نظراً لأسبقيتها في مجال التعليم. وبحكم قيمة الكتاب للدارسين, والباحثين والعلماء بدأت الجامعات, ودور العلم في إقامة معارض الكتاب, وكان لجامعة الملك سعود, وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وبقية الجامعات السعودية دور في إقامة معارض الكتب مما أسهم في إعطاء الفرص لاقتناء الكتاب, والتعريف به إذ لا يمكن أن يتمكن الفرد بجهوده الذاتية من معرفة الجديد سواء في حقله المعرفي الذي يتخصص فيه أو في حقل الثقافة بشكل عام. وحتى يتم توحيد الجهود في معارض الكتاب تولت وزارة الثقافة والإعلام المهمة وأصبحت الجهة المشرفة, والمنظمة لهذا النشاط, وقد طرأت تحولات على معارض الكتاب إذ لم يعد الأمر كما كان في السابق مجموعة دور نشر تعرض كتباً للبيع, بل أصبح تظاهرة ثقافية تتضمن ندوات, وأمسيات شعرية, ومناقشات فكرية لا تخلو من الاختلاف بين الحضور وهذا في حد ذاته ظاهرة صحية تعكس شيئاً من الوعي خاصة إذا كان قائماً على أسس موضوعية, وقد سبق معرض القاهرة الدولي للكتاب في ترتيب مثل هذه المناظرات والندوات بين أقطاب الثقافة في مصر, والعالم العربي. وكان لذلك دور في إحداث الحراك الاجتماعي وتسليط الضوء على بعض القضايا المهمة في الساحة الاجتماعية, وحسناً صنعت الوزارة حين استضافت ضمن نشاطات معرض الرياض الدولي للكتاب لهذا العام مجموعة من الضيوف من خارج المملكة, ومن ثقافات متعددة ولعلي أشير إلى الضيوف اليابانيين وهم كل من: الدكتورة توموكو والتي حاضرت عن العقل الياباني والذي يحق لنا أن نسأل هل العقل الياباني الذي أبدع اقتصادياً, وصناعياً في الوقت الراهن له ما يميزه وراثياً حتى يحقق هذه الإنجازات؟ أم أنه عقل ككل العقول لكن الظروف البيئية والثقافية والاجتماعية السائدة هي التي أوجدت البيئة؟ والمناخ المناسب لهذه المنجزات؟ أما المحاضر الآخر فهو هوندا كونيتشي, والذي حاضر عن الخط العربي، والجهود المبذولة في اليابان للتعريف بالخط العربي, والثقافة, والعادات, والتقاليد العربية, وذلك من خلال الخط العربي كمدخل بصري يؤدي لاستنتاجات عقلية حول العقل العربي. ومع الإقبال الشديد على المعرض وفعالياته ومشاركة أكثر من 550 دار نشر يحق لنا أن نتساءل هل اقتناء الكتاب مؤشر على الثقافة, وعلى القراءة؟ وبغرض الإجابة على هذا السؤال يمكن القول إن اقتناء الكتاب بحد ذاته ووضع الأموال في هذا السبيل يعد مؤشراً إيجابياً في حق الأفراد والمجتمع بدلاً من تبذيرها في أمور أقل قيمة, وفائدة. لقد لاحظت, ولاحظ غيري النهم, والقراءة في المجتمعات الأخرى في المرافق العامة كالمطاعم ووسائل المواصلات كالقطارات والباصات وفي الحدائق ووقت الانتظار في المستشفيات, وغيرها, وهذا مؤشر واضح وجلي على حرص أبناء تلك المجتمعات على القراءة, ومع اختفاء هذه الظاهرة لدينا إلا أن هذا لا يعني قلة القراءة لدى أبناء مجتمعنا إلا أن قلة القراءة أمام الناس, وفي المرافق العامة قد يكون نتيجة الثقافة الاجتماعية التي قد لا تساعد على هذه الممارسة, ولا تشجع عليها, وفي ظني أن الأمر يحتاج إلى دراسة بهدف معرفة الأسس الاجتماعية والنفسية وراء اختفاء القراءة أمام الملأ واقتصارها على البيوت, والمكاتب, والأماكن الخاصة فهل هذا يدخل ضمن العيب الاجتماعي, أو الخوف من نظرات الآخرين, وانتقادهم, أم أن في الجعبة الاجتماعية مبررات ليست واضحة وقد تكشفها الدراسة فيما لو عملت؟ ومع الزخم الذي أحدثه معرض الرياض الدولي للكتاب أعتقد أن من الأسئلة المشروعة لزواره هو ما الجديد الذي من الممكن أن يجده من يرغب في اقتناء الكتاب؟ هل ما يوجد في بطون هذه الكتب يقدم جديداً؟ أم أن الكتب ما إلا تكرار لبعضها, وما الاختلاف إلا في الشكل والإخراج. إن الجديد في الفكر هو خطوة نحو الأمام ونقلة نوعية في طريقة تفكير المجتمع نحو الكثير من القضايا سواء على المستويين المحلي أو الدولي خاصة أننا أصبحنا وشئنا أم أبينا, جزءاً يؤثر ويتأثر فيه. إن العلاقة بين صناعة الكتاب تأليفاً وطباعة ونشراً وتوزيعاً وبين مستوى الثقافة والوعي هي علاقة طردية, أي أنه كلما زاد الوعي زادت صناعة الكتاب وزاد الطلب عليه وأحدثت الآليات والوسائل التي تسهم في انتشاره ووصوله لأيدي الناس, كما أنه كلما قل الوعي وانتشر الجهل تراجعت صناعة الكتاب وانتشاره وأصبحت محصورة في أيدي قلة من الناس, ولذا يمكن الإشارة إلى أن هذه المعارض والندوات والمحاضرات المصاحبة هي مؤشرات على الوعي والثقافة فإلى المزيد في تطوير هذه الصناعة لأننا في الوقت ذاته نصنع مزيداً من الوعي والثقافة.