القمة الثالثة والصدمة الثالثة

القمة الثالثة والصدمة الثالثة

[email protected]

بالمقياس السعري فقط، فإن السوق النفطية تعيش مرحلة الصدمة الثالثة. لكنها صدمة تختلف عما شهدته السوق من قبل، وتتعلق بضبابية الرؤية أكثر منها بانقطاع في الإمدادات.
فالصدمة الأولى تزامنت مع الحرب العربية ـ الإسرائيلية عام 1973، إذ تضاعف سعر البرميل أربع مرات، ولأسباب تتعلق بتجاوز الطلب للعرض في المقام الأول، وهو ما فاقم فيه البعد السياسي والعسكري بسبب الحظر النفطي الذي فرضته الدول العربية. وبعد ست سنوات انطلقت الصدمة الثانية متزامنة مع اندلاع الثورة الإيرانية. وفي الحالتين كان الخوف من انقطاع الإمدادات الدافع الأساس وراء تصاعد الأسعار مع البعد السياسي، الذي عزز من الخاصية الاستراتيجية لسلعة النفط.
هذه المرة تتصاعد الأسعار لأسباب لا تتعلق بانقطاع في الإمدادات، الأمر الذي دفع بعض المحللين ليطلق عليها أنها أول صدمة نفطية تتعلق بالنمو في الطلب الذي لا يلاحقه نمو مماثل في الإمدادات، كما تشير التحليلات الغربية، وهو ما تنازعه الدول المنتجة، التي ترى وراء ارتفاع الأسعار أسبابا أخرى على رأسها التوترات الجيوسياسية والأمنية والحالة المزاجية العامة للسوق، أكثر من كونها تعكس حقائق أساسيات السوق الخاصة بالعرض والطلب، وهي الرسالة التي تمخضت عنها مختلف الاجتماعات التي تجري على هامش القمة الثالثة.
الرياض تستضيف في الوقت الحالي قمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) الثالثة، وعلى عكس القمتين السابقتين، فليس هناك اتفاق وتوافق في الرؤية حول مآلات السوق وتوجهاتها، أو الاتفاق على رؤية وتفسير موحد حول ارتفاع الأسعار.
القمة الأولى جاءت عقب الصدمة الأولى، ومع بروز انقطاع في الإمدادات بكل وضوح. الصدمة الثانية حدثت بسبب إحساس متوهم أن الثورة الإيرانية ستؤدي إلى انقطاع في الإمدادات. لكن هذه المرة ورغم التوترات السياسية والأمنية التي تطول بعض الدول المنتجة، إلا أنها لم تصل إلى درجة حدوث انقطاع في الإمدادات، أي انه في هذه المرة ليس هناك انقطاع حقيقي أو متوهم فيما يخص وضع الإمدادات، بل إن الدول المنتجة، خاصة تلك الأعضاء في (أوبك)، تجدد التزاماتها بين الحين والآخر عن استعدادها لضخ المزيد من الإمدادات والمضي قدما في برامج توسيع ورفع الطاقة الإنتاجية، لكن الأسعار تستمر في الارتفاع وتكاد بالمعدل الاسمي تقارب ما كانت عليه في أعلى فترة شهدتها في مطلع عقد الثمانينيات.
ولهذا تصبح الصدمة الحقيقية هي حالة عدم الوضوح وإيجاد التفسير القاطع لما تشهده السوق النفطية، حتى وصل الأمر ببعض الباحثين إلى اعتماد عوامل إضافية إلى جانب عنصري العرض والطلب في مسعى لإيجاد تفسير ما يبرر حالة الاضطراب التي تعيشها السوق في الوقت الحالي ومستقبلها، ففي نهاية الأمر لا يمكن معالجة الوضع الراهن دون معرفة المسببات التي أدت إليه.
والغريب أنه رغم الحملة التي تقودها الولايات المتحدة لدفع (أوبك) إلى ضخ المزيد من الإمدادات، إلا أن التوقعات مثل تلك الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة أخيرا تتحدث عن تراجع في الطلب، الأمر الذي يعطي مصداقية للتفسير الذي تطلقه منظمة (أوبك) على الوضع الحالي في السوق، وهو ما يزيد في تعقيد الموقف، ويجعل الحديث عن أن ضعف الإمدادات هو الأساس في الارتفاع الحالي للأسعار، وهو ما يراه البعض مؤشرا على أن الدخول في مرحلة ذروة النفط، توصيف في الاتجاه الخاطئ.
لكن بغض النظر عن مدى صوابية أي الموقفين، يبقى الغموض سيد الموقف، وهو غموض لا يقتصر على السوق النفطية وحدها، وإنما ينبع من حالة التحولات التي يشهدها العالم وتتلخص في الانتقالات التي تصاحب ثورة الاتصالات والعولمة بموجاتها المتدافعة وبكل تأثيراتها على مختلف أنماط النشاط الاقتصادي، خاصة في الوقت الذي يتجه فيه قطاع الخدمات إلى تبوء مكانة أكبر مقابل القطاعات الأخرى كالإنشاءات والتصنيع مثلا، التي تستهلك طاقة أكبر.
من الناحية الأخرى فإن هناك بعض العوامل المعاكسة. فدخول العديد من الدول النامية مرحلة الأداء الاقتصادي النشط يعني أنها على طريق الاحتياج إلى المزيد من النفط، وفي الوقت ذاته فإن الدول الصناعية أصبحت تتحول تدريجيا إلى أنماط اقتصادية تستهلك نفطا أقل، وهو ما يظهر في أن نسبة أكبر من الإمدادات النفطية أصبحت تتجه إلى هذه الدول، كما أن هذه السوق النامية تستحوذ على الجزء الأكبر من حجم الزيادة المتوقعة في النمو على الطلب.
وهكذا ورغم المعارف المتراكمة والتجارب الثرّة التي مرت بها السوق النفطية لا على امتداد تاريخها لأكثر من قرن ونصف من الزمان، وإنما عبر العقود الثلاثة الماضية فقط، إلا أن الطرق تبدو مبهمة بأكثر من أي وقت مضى، فهذا زمان التحولات الكبرى، والسؤال إذا كانت السوق النفطية ستصبح ضحية لها أو عاملا في إنجازها.

الأكثر قراءة