ارتفاع أسعار النفط بين المضاربات وقلة العرض
ما يحدث لأسعار النفط من ارتفاعات متواصلة أمر يثير الدهشة، ولم تشهد أسعار النفط في تاريخها مثل هذه الموجات المتوالية من الارتفاعات. ما كان يحدث في الماضي هو أن تستجيب أسعار النفط لأحداث تهز المنطقة، مثل اندلاع الحروب العربية ـ الصهيونية، واندلاع الثورة في إيران، ومن ثم الحرب مع العراق، مما كان يثير قلق العالم بشأن الإمدادات من الشرق الأوسط، ثم تنزل الأسعار مع زوال العارض أو هدوئه. لكن أن تقترب أسعار النفط من 100 دولار أمر لا يوجد ما يبرره.
ارتفعت أسعار النفط منذ شهر آب (أغسطس) الماضي بأكثر من 30 في المائة، إذ كانت تتداول سلة (أوبك) ـ كما في الشكل البياني) تحت 70 دولارا، والآن تلامس سلة (أوبك) 90 دولارا (وتخطت هذا الحاجز)، ما يعنى أنها ارتفعت من معدل 67 إلى 90 دولارا، أي بنحو 23 دولارا في شهرين.
الحقيقة لم يشهد العالم في هذه الفترة أي حدث يستدعي هذا الارتفاع، فالملف الإيراني موجود على الطاولة منذ بضع سنين ولا يوجد جديد، وهو ما بين مدّ وجزر مع الغرب والوكالة الدولية للطاقة النووية، وإن ارتفعت حرارته قليلاً في الآونة الأخيرة. وأضحت الاضطرابات بين الأكراد والأتراك تحت السيطرة، لا سيما أن كليهما مقرب من واشنطن. وعلى كل حال ينتج كردستان العراق نحو 200 ألف برميل، ولا تعد هذه الكمية كبيرة تستدعى أي هلع أو اضطراب في الأسعار.
أما على مستوى الطلب على النفط، فلا يعقل أن يكون الطلب العالمي على النفط قد قفز في هذه الفترة ـ ما بين آب (أغسطس) وتشرين الثاني (نوفمبر) ـ لأماكن جديدة، خاصة أن الطلب العالمي معلوم والزيادة السنوية عليه مقدرة ما بين 1.3 و1.4 في المائة سنويا، ما يعنى أنه لا يوجد جديد ولا مفاجآت في موضوع الطلب.
وتشير معظم الدراسات إلى تنامي الطلب العالمي بوتيرة محسوبة ليصل إلى نحو 90 مليون برميل عام 2010، وسوف تصل حصة دول (أوبك) من هذا الإنتاج إلى 30 مليون برميل خام وخمسة ملايين أخرى من سوائل الغازات الطبيعية والنفط الثقيل غير التقليدي.
الغريب في الأمر أن هناك عدة أسباب لهذه الارتفاعات غير المبررة، وهذه الأسباب متناقضة وتعبر عن أصحابها. فمثلاً منظمة (أوبك) تبرر هذا الارتفاع بسلوك المضاربين، وأن النفط أصبح مثل أسواق المال معرضا لارتفاعات غير منطقية، وجاء هذا على لسان عبد الله البدري، الأمين العام لمنظمة أوبك، ونفى البدري أن يكون سبب هذا الارتفاع قلة العرض.
ويبدو أن من الآثار السلبية لأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة وعدم الاطمئنان لهذا النوع من الاستثمار، إضافة إلى الهبوط المستمر للدولار الأمريكي، دفع المستثمرين للاتجاه للاستثمار في النفط، ما جعل النفط يرتفع عاليا، كما حدث في سوق أسهم التكنولوجيا الأمريكي عام 2000م وسوق الأسهم السعودية عام 2005م (مضاربة بحته غير مبنية على أساسات).
وأما الغرب فيرى أن (أوبك) تتحمل بعض المسؤولية لهذه الارتفاعات، وأنه يجب عليها أن تزيد من معروضها لتهدئة الأسعار. ويعتقد بعض المراقبين الغربيين أن تراجع المخزونات الأمريكية بنسبة 8 في المائة عن العام الماضي وقلة مخزونات دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ODEC عن متوسطها للسنوات الخمس الماضية أكبر دليل على عدم تكافؤ المعروض والمطلوب، الأمر الذي يؤثر سلباً في نفسية المتعاملين في أسواق النفط.
وفى موقف مؤيد لوجهة النظر هذه، حثت وكالة الطاقة الدولية، الدول المنتجة للنفط من (أوبك) وخارجها على زيادة إنتاجها من النفط لزيادة مخزونات الدول الصناعية الكبرى من النفط. طبعاً اقتراب فصل الشتاء عادة ما يزيد الطلب على النفط بسبب ارتفاع الطلب على زيت التدفئة، خاصة في الأماكن الباردة مثل أوروبا وأمريكا الشمالية، إضافة إلى الكميات المتنامية التى تطلبها الصين أولا والهند ثانياً، والدور الكبير المتوقع أن تلعبه الهند في المستقبل كطالب كبير للنفط.
على الأرجح أن القاعدة الأساسية التى كانت تتحكم في أسعار النفط، وهي العرض والطلب، لم تعد كافية لتعليل ما يحدث للأسعار. الحقيقة إن ما يحدث لهذه الأسعار من الارتفاعات الماراثونية غير المعهودة لا يبعث على الطمأنينة، وإنما يشعرنا بالقلق.
وهنا قد يتساءل أحدنا: لمصلحة من هذه الارتفاعات الكبيرة في أسعار النفط؟ الجواب في غاية البساطة، وهو: في الوقت الراهن تصب هذه الارتفاعات في مصلحة الدول المصدرة للنفط، وذلك بزيادة المبالغ المالية القادمة من جراء بيع الخام. وأما في المستقبل فهو ليس في مصلحة هذه الدول، لأن ارتفاع سعر الخام لا يساعد على استمرار الخام كمصدر أول للطاقة في العالم، وهذا ما تعمل من أجله دول كبرى لا تتملك احتياطات كبيرة من الخام.
ولا بد من التساؤل عن مدى الترابط بين قيمة الدولار وتقييم النفط وعن الإصرار العجيب في تركيع الدولار مقابل العملات الرئيسة الأخرى، وهل يمكن أن يكون كل هذا من باب الصدفة؟ وبات واضحاً مدى تأثير هبوط الدولار في الأسعار وفي الإحساس الدائم بأن النفط قد أصبح باهظ الثمن ويجب عمل شيء لهذا.
الارتفاع الكبير في أسعار النفط يهدد نمو الاقتصاد العالمي بأسره، لأن ارتفاع الأسعار لا يساعد تلبية الحاجة العالمية إلى النفط، ما يؤدى إلى تهدئة دوران عجلة الاقتصاد. كل هذا سيحفز الاستثمار في مصادر الطاقة البديلة، ولم تخف أمريكا اهتمامها بوقود الإيثانول الحيوي وحرصها على خلطه مع بنزين السيارات، وقد أبدى المسؤولون الأمريكيون إعجابهم بالتجربة البرازيلية في إنتاج الإيثانول وزيادة كميته في وقود السيارات. وتمضى أوروبا قدماً في تحفيز إنتاج الديزل الحيوي، والعمل يجرى على قدم وساق على تفعيل إنتاج الديزل الحيوي. واستولت أبحاث إنتاج الديزل الحيوي على العاملين في مجال الكيمياء والطاقة، ما جعل بحثاً يناقش هذا الموضوع يفوز بأكثر قراءة وأكثر استعمالا في البحوث.
بات واضحاً أن الزيادة الأخيرة لدول (أوبك) (500 ألف برميل يومياً) لم تفِ بالغرض، وهو كبح جماح الأسعار لتبدو منطقية وتغلب عليها العقلانية بدل الحواجز النفسية والفزع، حيث تخطت أسعار سلة (أوبك)90 دولارا (واقتربت أسعار نفط غرب تكساس من 100 دولار). وهذا يعنى بالدليل الواقعي أن العالم في حاجة إلى زيادة في العرض على أمل استدراك الموقف وتملك زمام المبادرة من جديد.
إذا استطاعت دول (أوبك) أن تزيد الإنتاج مليون برميل قبل قدوم فصل الشتاء في كانون الأول (ديسمبر) المقبل تكون بذلك قد أثبتت قدرتها وحكمتها على أنها منظمة فاعلة ولديها الكثير من المرونة وتسيرها بوصلة الطلب العالمي على النفط لا مصالح فردية. وإذا ما أعلنت أوبك زيادة الإنتاج ولم تتفاعل معها الأسعار نزولا، فهذا سيكون الدليل القاطع على أن أسعار النفط قد تخطت منظمة الأوبك وأن العالم يعيش أزمة نفطية.