حتى جرينسبان يدعو إلى فصل الريال عن الدولار
في منتدى جدة الاقتصادي الأسبوع الماضي انتقد آلان جرينسبان المحافظ السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سياسة ربط العملات الخليجية بالدولار، وأكد أن لذلك دورا كبيرا في ارتفاع معدلات التضخم الخليجية، في مخالفة تامة لتصريحات مسؤولينا النقديين الذين ينفون مثل هذا التأثير. والحقيقة أنه ليس هناك أدنى شك في أن تراجع سعر صرف الدولار، في ظل عدم تغيير سعر صرف الريال أمامه، قد تسبب في نتائج سلبية هائلة على اقتصادنا، لعل أبرزها وأكثرها وضوحا هذا الارتفاع الكبير في معدلات التضخم. وإذا كان مسؤولونا النقديون قد أخطأوا تماما في قراءة مستقبل سعر صرف الدولار واتخذوا القرار غير المناسب نتيجة لذلك، فإن عليهم عدم الإصرار على الخطأ تفاديا للاعتراف به، فالاعتراف بالخطأ وعدم الإصرار عليه إحدى المزايا التي يجب أن يتصف بها أي إداري في موقع قيادي. ويروى في هذه المناسبة أن الرئيس إبراهام لينكون أحد أبرز الرؤساء الأمريكيين، وشخصية خلدها التاريخ كما نعرف جميعا، سئل ذات مرة عن سبب رحابة صدره وقبوله الدائم تغيير رأيه عندما يعتقد أنه كان على خطأ فقال: أود أن أعتقد أنني اليوم أذكى، بالتالي فهو يرى أن من الذكاء تغيير الرأي بعد إدراك الخطأ، ما يعكس ثقة عالية بالنفس تسهل الاعتراف بالخطأ وتشجع على التراجع عنه.
ورغم أنني لا أتفق مع جرينسبان في اقتراحه بتعويم الريال بدلا من ربطه بالدولار باعتبار أن عملات الدول المعتمدة على صادراتها النفطية عملات غير قابلة للتعويم ويلزم استمرار ربطها بعملة أو سلة عملات عالمية رئيسة، لحمايتها من التذبذب العنيف في سعر صرفها تبعا للتغيرات التي تحدث في تدفقات النقد الأجنبي نتيجة تقلبات أسعار النفط الخام العالمية. ففي حال تعويم مثل هذه العملات، دون إيجاد آلية تضمن توازن تدفقات النقد الأجنبي، كأن ينشأ صندوق يتولى استثمار فوائض إيرادات النفط خارجيا، فإن العملة المحلية سترتفع عند حدوث تزايد كبير في أسعار النفط الخام وتتراجع بقوة عند حدوث انخفاض حاد في أسعاره، ما يؤثر سلبا في النشاط الاقتصادي ويضعف من جاذبية البيئة الاستثمارية. إلا أنني أتفق معه تماما في خطأ مواصلة ربط الريال بالدولار عند سعر صرفه الحالي ودوره المؤكد في ارتفاع معدلات التضخم محليا، وأن سياستنا النقدية الحالية غير ملائمة على الإطلاق ولا تخدم مصلحة اقتصادنا الوطني. والحل الأمثل، ليس تعويم الريال كما اقترح جرينسبان، وإنما إعادة تقييمه أمام الدولار ثم ربطه بسلة عملات لحمايته من أي تراجع إضافي في سعر صرف الدولار.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن سعر صرف الدولار حقق يوم الجمعة الماضي أدنى سعر له في تاريخه أمام اليورو بوصوله إلى 1.524 دولار لليورو، كما تراجع سعره أمام الين الياباني إلى أدنى مستوى له منذ ثلاث سنوات، فإنه من غير المناسب أن نبقى دون حراك آملين أن يوقف هذا التدهور في سعر صرف الدولار، بل حتى أن يستعيد الدولار بعضا من قيمته المفقودة، فينقذنا من ورطة الحاجة إلى اتخاذ قرار بشأن ربط الريال به. ففي ظل مؤشرات تراجع أداء الاقتصاد الأمريكي هناك حاجة إلى مزيد من الخفض في أسعار الفائدة، ما سيفاقم من الضغط على الدولار خلال المرحلة المقبلة، كما أن تصريح محافظ البنك الاحتياطي الأمريكي الأسبوع الماضي الذي أكد وجود أثر إيجابي في الاقتصاد الأمريكي يتمثل في تحسن عجز الميزان التجاري نتيجة هذا التراجع في سعر صرف الدولار، يؤكد أن هناك رضا ضمنيا أمريكيا عن مواصلة الدولار تراجعه، وبالتالي لا يتوقع أن يقدم البنك الاحتياطي الفيدرالي على أي إجراء يسهم في الحد منه.
والأمل أن يشعر مسؤولونا النقديون بأنهم اليوم أكثر ذكاء عما كانوا عليه قبل ثلاث سنوات فيغيروا رأيهم ولا يجدوا غضاضة في الاعتراف بالخطأ وبالتالي تدارك ما يمكن تداركه، وينقذوا اقتصادنا من أخطار تحدق به نتيجة مواصلة الدولار تراجعه. فمعظم ما يعانيه اقتصادنا من معضلات حاليا يعود في الأساس إلى أخطاء جسيمة ارتكبت في تنفيذ سياساتنا النقدية أسهمت في إدخال اقتصادنا في أزمات متتالية، في وقت يفترض فيه أن يكون اقتصادنا في أفضل حالاته تاريخيا، مع هذا الارتفاع غير المسبوق في أسعار النفط غير المهدد بتراجع الطلب عليه، إلا أننا لم نمتلك القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت الملائم، بل حتى نواصل تأخير اتخاذ القرار, وبالتالي نزيد من ثمنه الاقتصادي لأننا نخشى أن يقال إننا كنا على خطأ.