هل السكن سلعة أم حق اجتماعي؟
تمثل المشكلة الإسكانية معضلة لواضعي السياسة الاقتصادية على مستوى العالم ككل. فسواء كانت الدولة غنية أو فقيرة، متقدمة أو تلاحق ركب التنمية، ظلت مشكلة توفير السكن لكل مواطن تقلق الجميع على حد سواء. والمشكلة في السكن أنه لا يستهلك فقط المدخرات الحالية، لكنه يستهلك أيضاً المدخرات المقبلة، كما أنه يمثل عبئاً كبيراً على دخل المستهلك يتجاوز في بعض الدول نسبة 50 في المائة من دخله، وفي المملكة تقارب هذه النسبة 45 في المائة. لذلك تساءل الباحثون في مجال السياسة الاقتصادية والاجتماعية العامة قبل كل شيء عما إذا كان السكن حق اجتماعي لكل مواطن أم ينظر إليه على أنه سلعة ينطبق عليها ما ينطبق على السلع الأخرى كالسيارة والغذاء. وتحديد النظرة أو المبدأ الذي يقوم عليه النظام الإسكاني في كل دولة هو جزء مهم من عملية تطوير القطاع. فالنظرة إلى الإسكان كحق تلزم الدولة بتحمل تبعات توفير السكن لكل مواطن، مثله في ذلك مثل أي سلعة عامة كالتعليم أو الصحة (إذا افترضنا أنهما سلعتان عامتان). بينما النظرة إلى السكن على أنه سلعة تؤدي إلى طريقة مختلفة من التنظيم، كما أنها تخلي الدولة من مسؤولية التوفير المباشر لهذه السلعة مثلها في ذلك مثل أي سلعة أخرى كالكهرباء أو الهاتف أو غيرهما.
الداعمون للفكرة الأولى يرون أن المسكن حق اجتماعي لكل مواطن بسبب أن السكن عامل أساسي في تحديد مستقبل علاقة الإنسان بمجتمعه وبمدينته وبوطنه وفي تحديد انتماءاته الدينية والسياسية والثقافية. وإذا سلمنا بهذا المبدأ يأتي السؤال التالي وهو كيفية منح هذا الحق لكل مواطن؟ هل يتم عن طريق تأسيس مشاريع الإسكان العامة ومنحها للناس بالمجان وهو الأسلوب الأكثر تطرفاً في تطبيق هذه الفكرة؟ أم عن طريق التزام الدولة نفسها بتوفير التمويل الميسر لكل مواطن وبشكل فوري حال رغبته في توافر السكن له؟ وقد كان لهذه الفكرة مؤيدوها في الولايات المتحدة إبان أزمة السكن التي واجهتها الولايات المتحدة خلال السبعينيات والثمانينيات الميلادية، ومن هؤلاء الباحث الاقتصادي جوزيف ديفس الذي جادل بأن (حق تملك المسكن يعد ركناً أساسياً في حياة المواطن الأمريكي، حيث إن الجنسية وتملك السكن يعدان ركنين أساسيين من أركان الحياة الديموقراطية). باحث آخر هو توم فوريستر طالب في كتاب له صدر خلال السبعينيات من القرن الماضي, بوجوب تأكيد ذلك الحق بإصدار قانون ينص على ذلك يفرض من خلاله على السلطة السعي لمنح ذلك الحق للمواطن. ومع ذلك فلم يصدر من الولايات المتحدة أكثر من الهدف الوطني الواسع, الذي حدد في قانون الإسكان عام 1949 (مسكن جيد وبيئة ملائمة للسكن لكل عائلة أمريكية) دون التأكيد على الأحقية الاجتماعية بذلك.
أما إذا سلمنا بأن السكن سلعة كغيرها من السلع فإننا بذلك نرفع عن الدولة مسؤولية توفير هذه السلعة، ويكون بذلك دورها محصوراً في تنظيم سوق هذه السلعة بشكل يضمن المنافسة العادلة والدخول المفتوح للسوق، دون تقييد بأي وسيلة للمعروض من هذه السلعة، وضمان حصول كل شخص سواء البائع أو المشتري أو المقاول أو الممول أو المقترض أو أي عضو فاعل في هذا القطاع على حقوقه التي كفلتها له الشريعة والقوانين والأنظمة المرعية، والتزامه في الوقت نفسه بالواجبات الملقاة على عاتقه. والملاحظ أن النظرة إلى الإسكان في المملكة كحق أم كسلعة لم تأخذ خطاً واضحاً من البداية. ففي فترة السبعينيات أخذت الدولة على عاتقها توفير السكن للمواطنين سواءً من خلال مشاريع الإسكان العام أو من خلال منح الأراضي بشكل عشوائي أو من خلال تقديم القروض المدعومة من خلال صندوق التنمية العقاري. أما في الوقت الحالي فالدولة تعمل على مزيع من المبدأين الحق والسلعة، فهي تسعى إلى توفير السكن لأصحاب الدخول المنخفضة، بينما تترك عملية توفير السكن لأصحاب الدخول المتوسطة إلى قوى السوق نفسها، التي شوهتها السياسة الاقتصادية للدولة نفسها على مدى العقود الأربعة الأخيرة.
فعلى سبيل المثال تتميز المملكة بتوافر الأراضي البور بشكل لا مثيل له في كثير من الدول. لكن بسبب سياسات المنح العشوائي غير المؤسس على معايير اقتصادية واجتماعية محددة كمستويات الدخول أو مدى الحاجة إلى استخدام الأرض للاستغلال المباشر للسكن، وسواءً بمساحات صغيرة أو بمساحات كبيرة جداً (للبعض طبعاً)، أدى ذلك إلى تشويه كبير لقوى السوق التي يفترض أن تحكم العرض والطلب من السلعة. والغريب في الأمر أن السياسات الاقتصادية المتبعة بدلاً من أن تؤدي إلى تحسين شروط السوق أسهمت في تعميق المشكلة من خلال السياسات المتعلقة بالقروض العقارية أو من خلال السياسات الضريبية والزكوية, فقد أدت اشتراطات منح قروض الصندوق العقاري إلى تعميق هذا التشويه بدلاً من أن تخفف منه، من خلال اشتراطات الحصول على الأرض وامتلاكها طول فترة الانتظار. هذا الأمر أدى بشكل كبير إلى تحجيم المعروض في السوق أو تركيز ملكيته ومن ثم التحكم فيه من قبل أسماء عقارية معروفة مارست على مر العقود الأربعة الماضية سياسات أدت إلى الرفع من قيم أصولهم العقارية مدعومين في ذلك بملاءتهم المالية وقدرتهم على الاحتفاظ بأصولهم العقارية لفترة طويلة دون أن يكلفهم ذلك شيئاً. وزاد من قدرتهم على ممارسة ذلك السياسات الضريبية والزكوية المتبعة والتي لا تفرض أي ضريبة أو لا تفرض جباية الزكاة الشرعية سنوياً على هذه الأصول العقارية، وذلك على الرغم من أن عملية جباية الزكاة على الأصول العقارية لن تكلف ما تكلفه عملية جباية زكاة المواشي, التي تقوم بها مصلحة الزكاة والدخل سنوياً, (التتمة في الأسبوع القادم).