خطر إعادة دمج الدولة بالكنيسة على حساب النظام الليبرالي
ولد جيمي كارتر في بلينز, في جورجيا, وتولى منصب الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة, ثم أسس مع زوجته روزالين مركز كارتر وهو بحسب مؤسسيه: (مؤسسة غير ربحية تمنع النزاعات وتقدم الحلول لتسويتها وتهتم بتحسين الصحة حول العالم وتعزز الحرية والديمقراطية)، منح جائزة نوبل للسلام عام 2002. ألف 21 كتابا منها: المشاركة في الأزمنة الطيبة، فضائل الشيخوخة، نقطة تحول، التفاوض, وكتاب قيمنا المعرضة للخطر الذي عدته "نيويورك تايمز" الكتاب الأول في أفضل الكتب مبيعا.
في كتابه (قيمنا المعرضة للخطر), يثير المؤلف الخطر الذي يهدد بالتحول عن القيم الأخلاقية التقليدية لأمريكا, والذي تبلور واشتد بعد هجوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001, هذا التحول قاده الأصوليون المسيحيون أو المحافظون الجدد الذين نجحوا في تدمير معالم الحوار الديمقراطي التاريخي مع الآخر فيما يتعلق بالقضايا الحساسة للدولة والمجتمع الأمريكي, وتحويل الحوار المفتوح الذي استمر قرونا إلى موقف متشدد لا يرى سوى الأبيض والأسود.
وهذا التحول الخطير لا يشمل فقط القضايا الاجتماعية المختلف عليها مثل: الإجهاض، الطلاق، اللواط، حكم الإعدام، وتدمير البيئة وغيرها, بل يمتد عميقا ليكتسب بعدا أخلاقيا وقانونيا خطيرا, متغلغلا إلى أعمق أعماق النظام السياسي العلماني في الولايات المتحدة. ومهددا الأسس الجوهرية لهذا النظام. فمبدأ فصل الكنيسة عن الدولة يتعرض اليوم إلى هجوم خطير, فقد حول المحافظون الجدد الحزب الجمهوري إلى ذراع سياسية للأصولية المسيحية, ومضوا بعيدا في تبني جدول أعمال طائفي إلى الدرجة التي صار الحزب معها امتدادا لحركة دينية, فهناك حملة صليبية واسعة النطاق, مخطط لها بعناية لإعادة دمج الكنيسة والدولة, كما يتم اليوم انتهاك استقلال المحاكم الفيدرالية التي يرى بعض الأصوليين الجدد أنها ليست سوى منفذ لقرارات السياسيين.
يتألف الكتاب من 17 فصلا, يتناول المؤلف من خلالها التحولات والتهديدات التي تتعرض لها القيم الأمريكية الأساسية, فتحت عنوان (النساء هل يجب أن يكن خاضعات؟), يبين كارتر أن التيار الأصولي الجديد الذي أصبح قويا جدا في بعض الكنائس المسيحية, قد حرم المرأة من ممارسة أي دور كهنوتي, مشيرا إلى أن النساء في أمريكا لم يحصلن أساسا على حق الانتخاب إلا في عام 1920، وبعد 50 عاما من منح حق الاقتراع للسود. ويرى المؤلف في فصل (تشويه سياستنا الخارجية), أن الأصوليين يدمرون الأسس العريقة التي قامت عليها هذه السياسة وذلك باتباعهم سياسة تملق الجماهير وإثارتها ضد أعداء لا يشكلون خطرا على البلاد, وأن هذه السياسة المشوهة تجاه الأمم الأخرى قد تسببت في موجة قوية من المشاعر المعادية للولايات المتحدة, كما تسببت بالخسارة لجزء مهم من حلفائها التقليديين. ففي أمريكا الجنوبية تمت الإطاحة بالقادة السياسيين الموالين لأمريكا, وفازت أحزاب اليسار عام 2000 في كل من تشيلي، والأرجنتين، وفنزويلا، والأكوادور، والبرازيل، وبوليفيا. وأصبح الطابع المألوف للسياسة الخارجية الأمريكية هو افتعال التوتر مع دول مثل: كوريا، وسوريا، وإيران, وإغلاق باب المفاوضات مع جميع الدول المعارضة، ما انعكس بشكل سلبي على المحيط الجيوبوليتيكي لهذه الدول إلى درجة أن استطلاعا أجري في كوريا الجنوبية حليف أمريكا التقليدي قد بين أن 50 في المائة من الطلاب الجامعيين يرون أن الولايات المتحدة هي عقبة السلام الأساسية في شبه الجزيرة الكورية.
وكل يوم يتزايد التأثير القوي للأصوليين المسيحيين على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط, عبر إقحام الرؤى التوراتية في صياغة السياسة الخارجية, فبعض الأصوليين الجدد يرى بشكل جدي ضرورة التسريع بنهاية العالم عبر الدعوة لنشر الحروب في العراق، ومن بعدها إيران لتحقيق النبوءات الواردة في الكتب الدينية.أما في مجال حقوق الإنسان التي رفعت رايتها الولايات المتحدة, فقد جاءت أحداث سجن أبو غريب ومعتقل جوانتانامو لتلقي ظلالا ثقيلة على مصداقيتنا في هذا المجال.
وفيما يتعلق بالترسانة النووية الأمريكية, فالأمر يبدو أخطر بكثير, فبعد أن توصل العالم إلى لجم الرعب النووي بتوقيع معاهدة (منع الانتشار النووي) عام 1970, والتي انضمت إليها فيما بعد 187 دولة, تسببت سياسة المحافظين الجدد بإلقاء شكوك خطيرة على مستقبل المعاهدة وجدواها, وذلك برفضهم أو تهربهم من معظم اتفاقات السيطرة على السلاح النووي, بحيث صرنا المسؤول الأول عن الانتشار الكوني للسلاح النووي, وقد وصف مدير الدفاع السابق وكنمارا الأسلحة النووية الأمريكية الحالية أنها (غير أخلاقية, وغير قانونية, وغير ضرورية من الناحية العسكرية, وخطرة خطرا رهيبا), ويوجد في العالم اليوم 30 ألف سلاح نووي تملك منها الولايات المتحدة 12 ألفاً، وروسيا 16 ألفاً، والصين 400، وفرنسا 350، وإسرائيل 200، والهند وباكستان 40 لكل منهما. وفي الوقت الذي يزعم فيه القادة الأمريكيون أنهم يحمون العالم من انتشار أسلحة الدمار الشامل في العراق وإيران وكوريا الشمالية, لم يتوقفوا هم أنفسهم عن تطوير أسلحة نووية جديدة, وتمرير تصريحات خطيرة لوسائل الإعلام باحتمال مبادرة أمريكا باستخدام هذه الأسلحة ضد دول غير نووية.
في خاتمة الكتاب يعلن كارتر ضرورة استعادة الموقع القديم الذي كانت الولايات المتحدة تحتله سابقا بصفتها (المثال الدولي للقيم), ودولة معادية للحرب والعنف, تكرس نفسها لحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية, ويقول في النهاية: (يجب أن ينظر العالم إلينا مرة أخرى باعتبارنا حامي الحرية وحقوق الإنسان بين مواطنينا وفي العالم أجمع, وأن نكون في المقدمة لتقديم المعونة الإنسانية, للمعوزين وتقاسم بعض ثرواتنا مع البؤساء والمعدمين).