الاستثمار العالمي في صناعة التكرير .. الشركات النفطية بين خيارين
تشير الدراسات والتوقعات إلى زيادة الطلب العالمي على المشتقات النفطية، وتتجه كثير من دول العالم إلى زيادة قدرتها التكريرية لمواجهة هذا النمو العالمي الكبير. ويرى كثير من المراقبين أن قدرة العالم التكريرية ستزداد بنحو 8 مليون برميل يومياً بحلول 2012، وستأتي معظم هذه الزيادة من دول الخليج وآسيا الباسفيكية. زيادة القدرة التكريرية هذه تأتي إما بزيادة القدرة القائمة وذلك بتوسيعها وإما ببناء مصاف جديدة.
ويقدر المختصون حجم الاستثمارات العالمية في صناعة التكرير من عام 2007م وحتى عام 2020م بنحو 455 مليار دولار، وهذا يعني أن الاستثمار السنوي قد يصل إلى 35 مليار دولار. يجب الانتباه إلى أن هذه الأرقام بحسب مصادر (أوبك) الأخيرة، وهي مختلفة عما توقعه التقرير العالمي للطاقة لعام 2006م، إذ توقع التقرير أن ينفق العالم على صناعة التكرير نحو 64 مليار دولار سنوياً من 2006 إلى 2010، مرتفعاً من 43 مليار دولار سنوياً عن الفترة 2001 إلى 2005م.
وإذا عدنا للقيمة التي توقعتها (أوبك) للاستثمار في صناعة التكرير (455 مليار دولار للفترة 2007 إلى 2020م)، فيمكن توزيع هذه التكلفة الهائلة على النحو التالي: 108 مليار دولار قيمة المشاريع الجديدة أو المصافي الجديدة، 112 مليار دولار هي قيمة التوسعات وإضافة بعض الوحدات إلى المصافي وإجراء التحسينات، و235 مليار دولار هي القيمة المتوقعة لإجراء أعمال واستبدال الوحدات القديمة ووضع الجديد والمتطور مكانها.
وبحسب المشاريع المعلنة والمتوقعة، سيكون لدول جنوب شرق آسيا نصيب الأسد في هذا الاستثمار (نحو 135 مليار دولار ستنفقها هذه الدول على الاستثمار في صناعة التكرير إلى عام 2020م) إذ إنه من المتوقع أن تنفق نحو 35 مليار دولار على المصافي الجديدة، ونحو 64 مليار دولار لأعمال استبدال المصافي والوحدات القديمة بأخرى أكثر تطوراً وحداثة. وتقدر هذه القيمة بأكثر من ربع القيمة الكلية للاستثمار العالمي في هذه الصناعة، وتشكل حصة الصين وحدها نحو 75 في المائة من قيمة الاستثمار الآسيوي في صناعة التكرير.
أمريكا الشمالية، ممثلة في الولايات المتحدة وكندا، ستأتي ثانياً بعد دول آسيا الباسيفيكية في الإنفاق على صناعة التكرير، وسيكون أغلب الاستثمار في أعمال استبدال الوحدات القديمة وإضافة وحدات جديدة للمصافي تساعد على الامتثال لشروط المنظمات الدولية المتعلقة بمواصفات الوقود المنتج، وأهمها كميات الكبريت في كل من الجازولين والديزل، أي أن معظم استثمارات أمريكا الشمالية سيكون على زيادة تطوير المصافي بزيادة القدرة التحويلية للمصافي ونظافتها من الملوثات، ومن غير المتوقع أن يستثمر الكثير في إنشاء أبراج التقطير العادية.
أما أوروبا، فمن المتوقع أن تنفق حتى عام 2020م نحو55 مليار دولار، سيكون معظمها على وحدات استخلاص الكبريت من الديزل، إذ إن التشريعات الأوروبية بخصوص كميات الكبريت في الديزل شديدة الصرامة ولا تقبل أي مجاملة.
أما الشرق الأوسط، متمثلا في دول الخليج العربية وإيران، فمن المتوقع أن تصل قيمة استثماراته في صناعة التكرير إلى نحو 70 مليار دولار وذلك إلى عام 2020م. تعد المملكة أهم لاعب في هذا الاستثمار، حيث تم الإعلان عن إقامة أربع مصاف جديدة في كل من رأس تنورة (أرامكو) وينبع (كونكو فيليبس ـ أرامكو) والجبيل (توتال ـ أرامكو) وجازان (القطاع الخاص) بقدرة تقارب 1.5 مليون برميل يومياً، وبقيمة تقريبية قد تصل إلى 40 مليار دولار، هذا غير مشاريع تطوير المصافي القائمة وتوسيعها مثل تطوير مصفاة رأس تنورة ورابغ.
الكويت ستكون أيضا من اللاعبين الأساسيين في صناعة التكرير، وقد أعلنت عن نيتها لإقامة مصفاة الزور العملاقة بطاقة 615 ألف برميل يومياً، لتكون بذلك أكبر مصفاة في الشرق الأوسط وبقيمة قد تفوق 14 مليار دولار رغم أن التقديرات الأولية لتكلفة إنشاء هذه المصفاة كانت أقل من ستة مليار دولار.
أما إيران، فصناعة التكرير فيها يرثى لها بوجود المصافي القديمة التي لا تملك القدرة التحويلية العصرية ما يجعلها تفقد كميات كبرى من النفط على شكل زيت وقود قليل القيمة والفائدة، ما جعل إيران من أكبر دول العالم استيراداً لوقود السيارات "الجازولين"، أي أن المصافي الإيرانية تعانى قلة الكفاءة ولا تملك قدرة تحويلية حديثة. أعلنت إيران رغبتها في زيادة قدرتها التكريرية من نحو 1.5 مليون برميل يومياً إلى نحو 2.1 مليون برميل بحلول 2011م وبقيمة تقديرية قد تفوق 14 مليار دولار، وذلك لإيجاد حل لمشكلة الجازولين المتفاقمة في إيران والتي قد تؤدي إلى الكثير من المشكلات والاضطرابات الداخلية، أي أن معظم الزيادة في قدرة التكرير الإيرانية ستكون للاستهلاك الداخلي بعكس المملكة والكويت.
ومن جهة أخرى فهنالك الكثير من التحديات التي قد تبطئ عمليات تطور وازدهار صناعة التكرير العالمية. ولعل من أهم الصعوبات التي تواجهها هذه الصناعة تكمن في المواصفات البيئية الشديدة على المصافي والانبعاثات الخارجة منها، إضافة إلى التشريعات العالمية الصارمة بخصوص مواصفات المشتقات النفطية، خاصة فيما يتعلق بنسبة الكبريت في كل من الديزل والجازولين ونسبة المركبات الأخرى الضارة مثل مركبات النيتروجين وكميات العطريات في الجازولين. وفي الفترة الأخيرة بدأ يظهر على السطح عامل شديد الأهمية ويكاد يهدد صناعة التكرير، وهو الارتفاع الهائل في تكلفة إنشاء المصافي. وبحسب مصادر (أوبك) فإن تكلفة إنشاء المصافي ارتفعت سنوياً بنحو 3.2 في المائة في الفترة 1980 إلى 2003م وزادت هذه النسبة عام 2004م لتصل إلى 7.2 في المائة. وأما عام 2006م فوصلت الزيادة في ارتفاع التكلفة إلى 10 في المائة. كل هذا تترجم إلى قفزات في زيادة أسعار الإنشاء أو الصعود الكبير في تكلفة الإنشاء، ما جعل المراقبين ينظرون بعين الشك إلى إتمام بعض المشاريع المعلنة وخير دليل على هذه الصعوبة هو ارتفاع تكلفة مصفاة الزور الكويتية بأكثر من ضعف القيمة التقديرية الأولية وما واجهته من بعض المشكلات نتيجة للارتفاع الكبير في أسعار التكلفة. وقد تظهر مشكلات أخرى تتمثل في صعوبة إيجاد اليد العاملة المدربة والخبيرة بصناعة التكرير وخاصة على مستوى القيادات الصناعية، ما سيحول دون إتمام المشاريع في وقتها ويجعلها عرضة للتأخير.
ويجب الانتباه إلى أمر شديد الأهمية ومن شأنه أن يجعل الشركات النفطية الكبرى تفكر مرتين قبل الإقدام على إنشاء مصاف جديدة، وهو مستقبل الطاقة المتجددة والوقود الحيوي، حيث يقدم الغرب على تشجيعه في مقابل زيادة المعايير البيئية حدة وصرامة على النفط ومشتقاته، حتى أن الرئيس الأمريكي دعا إلى خفض استهلاك أمريكا من الجازولين بنسبة 20 في المائة في السنوات العشرين المقبلة.
وعليه، فإن الشركات النفطية العالمية هي بين خيارين استراتيجيين فيما يتعلق بالاستثمار المستقبلي، إما الاستثمار في مصافي جديدة لإنتاج الجازولين والديزل وتحمل عبء المعايير البيئية عالية التكلفة، وإما الاستجابة لرغبات حكوماتهم والاستثمار في إنتاج الإيثانول والديزل الحيوي.
ومن هنا فقد ينشغل العالم الغربي والبرازيل في إنتاج الإيثانول، وذلك لوجود المياه بكثرة إلى جانب الأراضي الزراعية الخصبة التي يمكن ملؤها بمحاصيل قصب السكر وبعض الحبوب الأخرى والحشائش التي تستعمل في صناعة الإيثانول والديزل الحيوي.
وعلى الأرجح فإن السنوات العشرين المقبلة ستحسم الصراع بين النفط والوقود الحيوي، إذ إن لكل منهم محاسنه ومساوئه، وبدأت تظهر أصوات تحذر من أن الاستخدام الكبير للأراضي الزراعية لإنتاج الوقود الحيوي قد يهدد ملايين البشر بالجوع، إذ إن استخدام هذه الأراضي من شأنه أن يمنع استغلالها لزراعة المحاصيل الزراعية التي تنتج المواد الغذائية.