مشاريع الإسكان وإيجاد البدائل
عندما يأمر خادم الحرمين بتسريع الأمور التي تهم المواطنين، وعندما تخرج القرارات التاريخية فإن المعنيين هم من يتأخرون عن خدمة الوطن والمواطن. وعندما تتأخر الأمور في إدراج الوزارات أو لا تكون تلك الوزارات قادرة على حل المواضيع فإن خادم الحرمين يأمر ويتخذ القرار. القرار الذي صدر الأسبوع الماضي لتنفيذ قطار الحرمين الشريفين وبمشاركة صناديق الدولة هو من نفس نوع القرار الذي نتحدث عنه. فهو موضوع قديم وأخذ من الوقت والدراسة أكثر مما يجب وتأخر كثيرا بسبب تعقيدات وزارة المالية والتمويل، لذلك صدر الأمر الملكي للبت في الموضوع. ولكن أن يأمر خادم الحرمين بالإسراع في حل موضوع الإسكان الذي سبق أن طرح كثيرا وتأخر أكثر من اللازم، وتكون إجابة وزير المالية أن على المواطن أن يبحث عن البدائل، هو أمر يحتاج إلى وقفة. فالإسكان جزء مهم من سياسات الدول لأنه يمس حياة كل مواطن ويساعد على الاستقرار الاجتماعي والسياسي ويؤثر في التنمية الحضرية والاقتصادية للدولة. وكما أمر خادم الحرمين لقطار الحرمين أن يسير فإنني أجزم بأنه سيأمر قريبا بتنفيذ مشاريع الإسكان وإيجاد البدائل. ولن ينتظر لحين ضياع الوقت في دراسات لوزارة المالية. لقد طالعتنا الصحف قبل أشهر بقرار الرئيس البريطاني الجديد قوردن براون بخطة لمواجهة غلاء المساكن بضخ أكثر من 50 مليار ريال حتى عام 2011م لبناء مساكن لمحدودي الدخل في بريطانيا. واقترح وزير الإسكان بناء 45 مدينة جديدة تحوي 70 ألف منزل متواضع. والبرنامج يهدف إلى توفير مليوني مسكن في عام 2016م. وهذا هو رئيس الدولة يأمر ووزيره يضع الحلول بينما يطلب منا البحث عن الحلول. ولننظر من حولنا عربيا ودوليا للعديد من البدائل الناجحة. دول أفقر منا ولكنها عالجت مشكلات الإسكان ومنذ قرون.
لقد كان الإسكان من مسؤولية وزارة المالية منذ الأزل ولم تتنصل عنه أو تطلب من المواطنين البحث عن البدائل. فتوفير الإسكان كان مسؤولية وزارة المالية منذ عهد الملك سعود عندما بنى الناصرية ثم تمليك مساكن كاملة لموظفي الدولة في حي الملز وليس قرض للبناء بدون أرض. واستمرت الوزارة في تنفيذ إسكان البلدية على شارع الستين وإسكان شمال الملز قرب موقع قيادة الحرس الوطني الحالي على طريق خريص وتم هدمه لعدم صلاحية تصاميمه. واستمر ذلك البرنامج لحين انتقلت المسؤولية لوزارة الأشغال والإسكان بمشاريعها للإسكان العاجل والعادي. والتي أيضا كان لها مساهمة في حل مشكلة الإسكان. وإلى جانب ذلك كانت وزارة المالية هي التي تعتمد ميزانيات لمشاريع الإسكان للوزارات والهيئات الأخرى مثل إسكان العسكريين وإسكان مؤسسة النقد والتحلية وغيرها. وبعد شح الميزانية قبل أعوام هدأت الأمور. ولكن اليوم ما العذر؟
والملاحظ في جميع تلك البرامج أن الدولة كانت هي التي توفر الإسكان ولم تكن تعطي قرضا بل كانت تطور الأراضي وتبني عليها وبكميات أوفر اقتصاديا ومن ثم توزعها على الموظفين ويرثها أولادهم من بعدهم. وأشهر مثال هو فلل الملز التي بنيت على أراض كبيرة أصبح المواطن يقتطع منها لبناء مساكن لأبنائه واستفادت منها أسر كثيرة.
إن إعطاء القرض ومن دون أرض يجعل المواطن يبحث عن الأرض ويوفر من معاشه لشرائها. وهذا يؤدي إلى كثرة الطلب على الأراضي مما يساعد على المضاربات ورفع أسعار الأراضي وطمع تجار العقار. وإقحام المواطن في البناء بدلا من أن نبني عنه يشغل المواطن الذي هو الطبيب والمهندس والاقتصادي والمزارع عن تأدية عمله ويعطله ويؤثر في اقتصاد الوطن، عوضا عن أن البناء بكميات كبيرة من الوحدات السكنية وبمواصفات موحدة وقياسية يكون أوفر بكثير على الجميع.
لقد آن الأوان أن نعترف أخيرا بعلم التخطيط وأهميته في التنسيق بين الجهات المختلفة والمتشعبة التي يعنيها الإسكان، وأن نعمل معا على تذليل التحديات التي تقف حائلا بين سد حاجة المواطن للإسكان وإمكانات توفير وتطوير الأحياء بجميع خدماتها التحتية، ومن ثم توفير الإسكان عليها ليكون في متناول جميع شرائح المجتمع. فالإسكان موضوع كبير ومتشعب ويضم تحته مجموعة من الجهات الخدمية والعدلية والتنظيمية والمالية والاجتماعية. وهو الشغل الشاغل لمعظم دول العالم وتقوم عليه هيئات دولية مثل البنك الدولي ومؤسسات الإسكان، وفي معظم دول العالم له هيئاته مثل الهيئة الفيدرالية للإسكان والتطوير العمراني HUD في الولايات المتحدة الأمريكية أو هابتات وغيرها من الهيئات في أوروبا.
ولعظم موضوع الإسكان فإن أكبر دول العالم وأكثرها تقدما في مجال الإسكان هي الولايات المتحدة الأمريكية. حيث يتكون الجهاز الهيكلي لحل المشكلة من أربع شركات أو هيئات كل منها له دور مختلف ومهم. وهي شركة "فاني مي" Fannie Mae وإدارة الإسكان الفيدرالي FHA تحت مظلة الهيئة الفيدرالية للإسكان والتطوير التي تقوم بأبحاث عن حلول للإسكان وكيفية جعله سهلا وفي متناول الجميع. ثم شركة فريدي ماك Freddie Mac. هذا عوضا عن دور البنوك والهيئات الأخرى في القطاع الخاص.
وتختص شركة فاني مي فقط بتمويل الإسكان وهي شركة مساهمة تتداول في سوق الأسهم منذ عام 1930م. وهي أكبر مؤسسة خدمات مالية للإسكان غير بنكية في العالم. وتعمل تحت مراسيم فيدرالية. وقد وفرت خلال الـ 30 سنة الماضية أكثر من ثمانية تريليونات ريال واستفاد منها أكثر من 30 مليون عائلة. بينما تقوم إدارة الإسكان الفيدرالي بالتأمين فقط على قروض التمويل التي يقوم بها الممولون من القطاع الخاص. وهي بذلك تضع المقاييس والأنظمة للبناء ولكنها لا تقرض أو تمول أو تطور أو تبني مساكن. وأخيرا مؤسسة فريدي ماك وهي تعمل بمراسيم من الكونجرس وتهدف إلى التأكد من ضخ السيولة في السوق لممولي المساكن بدعم القروض بضمانات حكومية وتوفير وسائل أفضل للتمويل.
ونلاحظ مما سبق أن هناك أربعة أدوار هيكلية أو مؤسسات مختلفة يجب أن توجد لحل مشكلة الإسكان. الأولى خدمات مالية للتمويل والثانية تأمين على القروض والثالثة ضخ السيولة ودعم القروض. بينما الرابعة وهي الأم تقوم الدولة بتمويلها للبحث والتطوير لحل مشكلات الإسكان وتخفيض تكلفة البناء وتوعية المواطنين إلى التعاون معها لحل المشكلة. وهي هيئات تقوم بوضع السياسات والبرامج التوعوية والمالية لمساعدة المواطنين بمختلف شرائحهم وخاصة الشرائح المحدودة الدخل للحصول على سكن مناسب ومتوافق مع ميزانيتهم. كما تقوم بتوفير المنح للبحث والتطوير لنماذج البناء ومواده وكود للبناء، ومراقبة المخزون الحالي في الزيادة السكانية المستقبلية والتنبؤ بالأزمات، وله صناديقه المختلفة للتمويل والرهن والقروض وعلاقتها بسعر الفائدة والسوق المالية.
ويلاحظ عالميا أن الدولة قلما تتدخل في عملية البناء الفعلي للمساكن بل تترك ذلك للقطاع الخاص من خلال اتحادات وتكتلات عقارية وممولين. ومن خلال تعليم وتدريب الفقراء والمحتاجين وأبنائهم للبناء بأنفسهم وكسبهم المهنة ليكونوا نواة لمؤسسات وشركات مقاولات كبرى تدعم من هيئات تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وكما أشرت في مقال سابق أن حل مشكلة الإسكان من زحل والعقار من المريخ فمن شبه المستحيل أن تجد عقاريا يهمه حل مشكلات الإسكان وإن تظاهروا بذلك. فلن تجد أحدهم يهتم بذوي الدخل المحدود أو الفقراء أو أي مشروع لتنمية الوطن إلا إذا كان مربحا له استثماريا. لذلك فإنه من المستحيل أن يقوم العقاريون أو المؤسسة العامة للتقاعد بحل مشكلات الإسكان للفقراء أو المحتاجين، حيث إن برامح الإسكان الموجهة لتلك الشريحة عادة تحتاج إلى دعم حكومي.
من هذا المنطلق فإنني أعتقد أن وزارة المالية يجب أن تستمر في دورها وأن تبذل جهودا أكبر بالتعاون مع هيئة الإسكان لتوظيف مؤهلين لديهم خبرة سابقة في مشاريع الإسكان وسياساته. وأن تستفيد من التجارب العالمية وتوظيف قدرات مؤهلة في مجال الإسكان والبحث العلمي وتخفيض تكلفة البناء وأنظمته ومواده، ولتخطط لحل مشكلات الإسكان على غرار آخر ما توصلت إليه الدول التي سبقتنا في هذا المجال. وأن تحاول الاستعانة بتلك المؤسسات وبعض خبرائها في برنامج تعاوني لتدريب وتوظيف مواطنين على الاستفادة من البحث والتطوير وتوعية المواطنين على الترشيد في البناء. وأن يوظفوا كفاءات لمناقشة الموضوع لديها الخبرة الجيدة في مجال وتخصص الإسكان ومختصين لديهم خبرة سابقة وبحوث في هذا المجال أو أن يتم التعاون مع من سبقونا فيه، بدلا من إقحام من سبق أن عايشوا المشكلة ولم يتمكنوا من حلها، والتمويل والأموال موجودة فما العذر!
وأن يتم الإسراع في إتمام الحلقات المفقودة في عقد الإسكان التي ننتظر أن تكون ضمن القرارات التاريخية القادمة لمجلس الوزراء بعد الإسراع في نظام الرهن العقاري والتي منها: اعتماد كود البناء السعودي الذي تأخر أكثر مما يجب. ونظام التسجيل العيني للعقار لحل مشكلات ازدواجية الصكوك وهيئة لأبحاث ودراسات الإسكان والبحث العلمي المتخصص في الإسكان وبنك للمعلومات العقارية والإسكانية وعلاقتها بالخصائص السكانية ومخططات شاملة للمدن تعتمد أسلوب الأحياء المتكاملة من الخدمات وتخصيص أجزاء منها لتكون بأسعار ميسرة للمواطنين. وأن يتم تحديث نظام الصندوق العقاري والرفع من قدراته ليشارك مع بعض البنوك المحلية لمضاعفة قيمة القرض الحالي وهو 300 ألف ريال الذي يعجز عن توفير المسكن. وأن يتم أيضا زيادة القرض ليشمل قيمة الأرض (أرض وقرض). وأن تساهم وزارة المالية في الرفع من قدرة الشركة العقارية وإنشاء شركات أخرى عقارية مساهمة متخصصة في بناء المساكن وبكميات كبيرة في مواقع مختلفة من مدن المملكة. وأن تقوم هي بتطوير الأراضي وتوفير الخدمات ثم البناء عليها لأحياء متكاملة. ومن ثم توزيعها على المحتاجين وفق قروض ميسرة.