في العرض والطلب

في العرض والطلب

[email protected]

مرت السوق النفطية على امتداد تاريخها الممتد على مدى أكثر من قرن ونصف من الزمان، بالعديد من التحولات، لكنها لم تشهد مثل الذي يجري حاليا من قبل، وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن العامل الأساسي المتمثل في العرض والطلب يبدو أنه لم يعد وحيدا في تحديد تحركات الأسعار والتأثير فيها، وإنما أصبح جزءا من منظومة متكاملة يصعب حسابها، لأنها لا تتم وفق الحسابات التقليدية التي يمكن تحديدها بدقة لأنها تقوم على مشاعر وعواطف تتعلق بالتفاؤل والتشاؤم، وكذلك دخول لاعبين جددا أكثر عددا وأكثر قوة وسطوة إلى السوق التي لم تعد مقصورة على المنتجين والمستهلكين فقط.
الحاجز النفسي أمام سعر برميل النفط انكسر، وتجاوزه 100 دولار أو حتى 150 دولارا لم يعد أمرا مستغربا. ووصل الأمر ببعض أركان الإدارة الأمريكية إلى توقع سيناريو حدوث انقطاع في الإمدادات من بعض دول بحر قزوين، وقيام إيران، ومن باب مواجهتها الدول الغربية بخصوص ملفها النووي، بخفض صادراتها النفطية ومساندة فنزويلا لها في هذه الخطوة. اللافت للنظر في ذلك السيناريو عجز الإدارة الأمريكية عن فعل أي شيء فيما إذا وصل مثل هذا السيناريو إلى أرض الواقع.
في تقدير له حول وضع السوق الحالي، قال دانييل يرجن الباحث المعروف في تاريخ الصناعة النفطية ومؤلف كتاب "الجائزة"، الذي يعتبر مرجعا لا غنى عنه لفهم تطورات السوق وتاريخها، إن ما تشهده السوق النفطية يظل متجذرا في الأوضاع الجيوسياسية والتطورات المالية والتوقعات ومزاجية السوق النفسية. وهذه أصبحت عوامل تؤثر في حركة السوق مثل قوانين العرض والطلب، أي أنها أصبحت عوامل حقيقية لابد من وضعها في الاعتبار.
يضاف إلى هذا أن حركة العولمة التي تتدافع موجاتها جعلت السوق مزدحمة بلاعبين جدد، ولم يعد من اليسير السيطرة عليها من قبل جهة واحدة منظمة كما كان الأمر في السابق. الصناعة النفطية بدأت متفرقة، ولعبت شركة ستاندارد أويل الدور الرئيس في تنظيمها من خلال سيطرتها على السوق وإزاحة الكثير من اللاعبين من خلال لعبة السوق الرأسمالية التي لا ترحم، واتجاهها إلى جانب المنتجات المكررة إلى جوار تجارة الخام التي سيطرت عليها.
وفي فترة ما لعبت سكك حديد تكساس دورا في هذا التنظيم، من باب دورها المحوري في نقل سلعة النفط وترحيلها لها بين مناطق الإنتاج والاستهلاك. وبعد تفكيك "ستاندارد أويل" بسبب قرارات حكومية وذلك تقليما لأظافر الاحتكار، حلت محلها الشقيقات السبع التي ومن خلال نشاطها عبر العالم وتكامل تحركاتها في جانبي الصناعة الأمامية والنهائية نجحت في ضبط السوق إلى أن حدثت متغيرات بسبب تحول السوق إلى صالح البائعين وبروز منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) لاعبا جديدا مؤثرا في الإنتاج والأسعار، وهو ما وجد التعبير عنه عندما بدأت (أوبك) في تحديد سعر برميل النفط وحدها منذ عام 1973، وهي خطوة وجدت سندا قويا في الجانب السياسي، إذ تزامنت مع الحرب العربية ـ الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل الكثيرين يعتقدون في الدور الأساسي لتلك الحرب في رفع الأسعار، رغم أن الأساس يعود إلى تجاوز الطلب للعرض.
طوال سنوات النشوة خلال فترة الطفرة النفطية الأولى، حيث كانت في حالة تصاعد مستمر، كان بعض المنتجين مثل السعودية يحذرون من الاستمرار في نهج دفع أسعار النفط إلى أعلى، لأنه مثل هذه الخطوة تتجاهل قوانين العرض والطلب، وهو ما برز فيما بعد بصورة جلية إثر قدوم منتجين جدد إلى السوق، ولم تعد (أوبك) هي المزود الأساسي للسوق بالإمدادات النفطية، وإنما المنتجين من خارجها، لذا أصبح يتحدد بما يجري في السوق الحرة، لا ما تحدده قرارات (أوبك) في اجتماعاتها المتتالية.
وضع السوق الحالي يشير إلى أن العرض والطلب لم يعد العامل الوحيد الذي يحكم حركة السوق، فتعدد اللاعبين منتجين ومستهلكين ودخول المجموعات المالية التي تستخدم النفط وسيلة لتحقيق عائد استثماري أو مهبطا لتحوطات مستقبلية جعل الأمور وكأنها تفلت من اليد. وعبر وزير الطاقة القطري عبد الله حمد العطية عن هذا بقوله إن العالم يجد في لوم (أوبك) الطريق الأقصر والأسهل لتفسير ما تعانيه السوق في الوقت الحالي.
صعوبة ما يجري أنه يستند إلى سابقة يمكن القياس عليها، فإلى حد كبير كانت (أوبك) تركز إما على استراتيجية تعظيم الأرباح وبالتالي خفض الإنتاج لتحقيق ذلك الهدف، وإما التركيز على حصتها في السوق وبالتالي عدم الانشغال بسعر البرميل، لكن الأمور لم تعد بهذه البساطة، الأمر الذي يتطلب إعمالا جديدا وخلاقا للفكر للتوصل إلى خيارات للتعامل مع هذا الوضع، وهي خيارات لن تقوم المنظمة وحدها بالتوصل إليها، وهو ما يتطلب حوارا أعمق يلعب فيه المستهلكون والشركات دورا لا غنى عنه.

الأكثر قراءة