رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


لتفسير الاقتصادي لجرائم العمالة البنجلادشية

[email protected]

كثر الحديث أخيرا عن ظاهرة انتشار الممارسات الإجرامية من قبل أعداد لا بأس بها من أفراد العمالة البنجلادشية في المملكة، بصورة قد لا تجاريها فيها أي جالية أجنبية أخرى، وبدا كما لو أن لدى هذه العمالة ميلا طبيعيا نحو ممارسة الجريمة ومخالفة الأنظمة، ما يعطي تفسيرا لانتشار مثل هذه المخالفات في صفوفها دون الجنسيات الأخرى. ورغم أنه ليس من المستبعد امتلاك مجموعة معينة استعدادا عفويا لممارسة الجريمة، بحكم ثقافتها ونظرتها الاجتماعية نحو الجريمة ومخالفة الأنظمة، إلا أن هناك تفسيرا اقتصاديا لهذه الظاهرة التي باتت واضحة محسوسة.
ففي بنجلادش يكتظ ما يزيد على 150 مليون شخص في مساحة لا تتجاوز 144 ألف كيلو متر مربع، أو ما يقل عن مساحة ولاية أياوا الأمريكية التي يسكنها أقل من ثلاثة ملايين فرد فقط، وسكانها يعيشون ظروفا مزرية جدا بحيث لا يتجاوز المعدل السنوي لدخل الفرد 500 دولار أمريكي، أو ما يقل عن دولارين في اليوم، ما جعلها واحدة من أفقر دول العالم وأكثرها كثافة سكانية، حيث تزيد كثافتها السكانية على ألف شخص في الكيلومتر المربع الواحد، بينما لا يتجاوز هذا المعدل في المملكة، على سبيل المثال، على عشرة أشخاص، وفوق كل ذلك، كثيرا ما تتعرض بنجلادش لكوارث طبيعية، بما في ذلك الفيضانات المدمرة وأعاصير السيكلون العنيفة، بالتالي يعتمد اقتصادها ومعيشة معظم سكانها على تحويل عمالتها في الخارج خاصة في الخليج وماليزيا، حيث تبلغ تحويلات هذه العمالة السنوية نحو خمسة مليارات دولار، وهي أهم مصادر تدفق النقد الأجنبي إلى البلاد.
هذه الأوضاع السيئة جعلت أعدادا هائلة ترغب في العمل خارج بلادها, خاصة في دول الخليج، ما جعل عرض العمالة البنجلادشية يفوق حجم فرص العمل المتاحة لها بمئات إن لم يكن آلاف المرات، بالتالي أصبحت هذه العمالة مستعدة للقبول برواتب متدنية جدا لا تقبل بها عمالة أي بلد آخر، لذا نجد أجورها الأدنى بين جميع الجنسيات العاملة في المملكة. وبسبب ظروفها غير الطبيعية أصبحت صيدا سهلا وعرضة للاستغلال والابتزاز ليس فقط من قبل مكاتب التوظيف في بلادها وإنما أيضا من قبل الشركات والمؤسسات الموظفة لها في المملكة، حيث يجري ابتزازها لدفع مبالغ طائلة لقاء مجرد منحها فرصة العمل في المملكة. فالعامل البنجلادشي الذي لا يتجاوز راتبه لدى شركة صيانة ونظافة 300 ريال شهريا يجبر في الغالب على دفع مبلغ قد يتجاوز عشرة آلاف ريال لقاء مجرد حصوله على تأشيرة العمل، وإذا أخذنا في الاعتبار الابتزاز الهائل الذي تتعرض له هذه العمالة حتى بعد وصولها إلى المملكة، المتمثل في تأخر صرف مستحقاتها لأشهر عديدة، وتحميلها تكاليف إصدار وثائق الإقامة ورخص العمل ونحو ذلك من رسوم الذي يجعل صافي الدخل الشهري للعامل لا يصل في معظم الأحيان حتى إلى 200 ريال، فإن ذلك يعني أن دخله الفعلي خلال كامل مدة عقده البالغة ثلاث سنوات لن يتجاوز 7.200 ريال، وهو ما يقل حتى عن المبلغ الذي دفعه في بلده لقاء حصوله على تأشيرة العمل.
لذا من السذاجة أن نتوقع من عامل تعرض لمثل هذا الابتزاز غير الإنساني ويعيش مثل هذه الأوضاع المأساوية المزرية ألا يلجا إلى كل وسيلة متاحة أمامه لتحسين دخله، بما في ذلك ممارسة مختلف أشكال الجريمة ومخالفة الأنظمة. والأمر من وجهة نظره لا يعدو كونه استمرارا لعملية الاحتيال والنصب التي مارستها وتمارسها بحقه مكاتب التوظيف والشركات والمؤسسات الموظفة له، وليس هناك في الواقع ما يمكن عمله لثني هذه العمالة عن سلوك درب الجريمة ومخالفة الأنظمة، ولن يجدي نفعا وضع حد أدنى لأجورها على سبيل المثال، لأن كل ما سيتحقق من ذلك هو خلق فرصة أكبر لمكاتب الاستقدام لابتزازها ومطالبتها بدفع مبالغ أكبر من السابق لقاء حصولها على تأشيرة العمل، والحل الوحيد المتاح هو منع استقدامها تماما والاستغناء عنها بالكلية.
إن توافر عمالة متدنية الأجر أمر غير مجد لأي اقتصاد، لما يحمل من آثار سلبية هائلة في نموه واتجاهات تطوره. فرخص العمالة يشجع على الحد من كثافة استخدام رأس المال ويشجع على الاستخدام الكثيف لليد العاملة، ما يتسبب في بدائية وتخلف أساليب الإنتاج وتواضع نوعية فرص العمل المتاحة في الاقتصاد. في المقابل، ارتفاع تكلفة اليد العاملة يجبر صاحب العمل على تطبيق وابتكار وسائل تحد من حاجته إلى العمالة، الأمر الذي يرفع من مستوى إنتاجيتها، وبالتالي ينعكس إيجابا على مستويات أجورها مستقبلا. ما يجعل اعتمادنا الكبير المتزايد على العمالة الأجنبية المتدنية الأجر يحمل انعكاسات سلبية هائلة، ليس فقط على أمننا الاقتصادي وسلمنا الاجتماعي، وإنما أيضا على قدرة اقتصادنا على المنافسة والتطور النوعي، ويمثل هدرا غير مبرر لمواردنا البشرية في تعارض تام مع أهدافنا التنموية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي