رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


التعليم والعمل أولاً

[email protected]

يبدو أن المرحلة الحالية تعد من أهم المراحل التي يواجهها اقتصادنا الوطني تاريخياً. إذ إن هذه المرحلة، وإن اتسمت بارتفاع مستوى الدخل العام للدولة، إلا أنها تميزت أيضاً بتراكم قضايا اقتصادية معقدة على مدى عقدين من الزمن، بما لم يكن معه هذا الارتفاع كافياً لتجاوزها. أي أنه على عكس ما كان مترسخاً لدى إفهام الكثيرين بعد الطفرة النفطية الأولى من أن توافر الموارد المالية كفيل بحل جميع المشكلات، فقد أظهرت هذه الطفرة النفطية أن ذلك غير صحيح، وأن الوفرة المالية ليست وحدها السبيل إلى تحسين الأداء الاقتصادي في مختلف المجالات، كما أنها لم تعد مبرراً مقبولاً يمكن لكل مسؤول التذرع به للتنصل من المسؤوليات الملقاة على عاتقه. بل إن المقارنة مع دول تتشابه كثيراً معنا في الخصائص الاقتصادية تدلل على أنه رغم انخفاض الموارد المالية لهذه الدول إلا أنها استطاعت تجاوز أغلب العقبات وحققت مستويات عالية في مجالات الصناعة والتجارة والتعليم والتوظف، مثبتة بالتجربة والبرهان أن النمو والتقدم الاقتصادي لا يأتيان فقط من خلال الوفرة المالية، بل من خلال التخطيط والإدارة الاقتصادية الجيدة، والمنوطان بتوافر رؤية اقتصادية لما نريد أن يكون عليه حال الاقتصاد والمواطن خلال فترة معينة من الزمن.
لكن كيف يمكن أن تكون مقومات المرحلة الحالية رافداً للمستقبل؟ للإجابة عن هذا التساؤل يجب النظر في التحديات التي يواجهها اقتصادنا الوطني، والتي أرى أنها ستمثل المفتاح الذي إن أمسكنا به وعرفنا كيف نوجهه فإنه سيفتح لنا أبواب المستقبل على مصارعها، وسيتحول معها الحلم إلى حقيقة والرؤية إلى واقع يعيشه كل مواطن في الشمال والجنوب وفي الغرب والشرق والوسط. وأول التحديات التي يمكن أن تكون مفاتيح الحل موضوع التعليم بشتى مستوياته العام والعالي، والفني والمهني. والنظرة إلى قطاع التعليم تنحصر غالباً في عدم توافر مرافق التعليم في متناول جميع المواطنين. وفي رأيي, أن ذلك لا يمثل التحدي الحقيقي الوحيد الذي يجب التركيز عليه فقط. بل إن التحدي الحقيقي في مجال التعليم هو كيفية جعل التعليم أداة إنتاج بشري ومصنع للأفكار والرؤى الخلاقة والتي يمكن بها تحريك عجلة البناء الاقتصادي إلى الأمام بالسرعة المطلوبة. إن توافر التعليم لكل مواطن أمر ضروري ومهم، ولكن يجب ألا يستغرق فكر القائمين على مرافق التعليم بشقيه العام والعالي على حساب نوعية ومخرجات النظام التعليمي. إذ إن المخرجات الجيدة هي الرافد الحقيقي لعجلة الاقتصاد ولنا في تجارب دول أخرى كمصر, العبرة والعظة، حيث إن التركيز على الكم لم يؤد إلى التقدم الاقتصادي المنشود بل على العكس من ذلك أدى إلى تراكم الخريجين يوماً بعد يوم، مما جعلهم يصبحون عالة على الاقتصاد لا أداة فعالة لتحريكه وتنشيطه. وتحسين مخرجات التعليم ترتبط بتحسين أداء المعلمين وأساتذة الجامعات الذين يعدون صلب ومحور العملية التعليمية، عن طريق العمل من خلال شروط النظرية الاقتصادية الجزئية على تصميم نظام الحوافز بما يكفل أداء كل منهم عمله على الوجه المطلوب.
والتحدي الآخر يتمثل في إصلاح قطاع العمل، إذ إن سوق العمل يمثل المكان الذي يصب فيه قطاع التعليم مخرجاته، والحاضن للإبداع والفكر الخلاق، والوسيلة لتحويل هذا الفكر الخلاق إلى منتجات نهائية تمثل قيمة مضافة للاقتصاد وتدفع بالنمو الاقتصادي. وهذه المنتجات هي الوسيلة لاستيعاب قوى عمل جديدة، إذ إنها تتطلب بناءً مؤسسيا إضافيا آخر لاستيعابها وإنتاجها ومن ثم زيادة اتساع سوق العمل على جميع الاتجاهات الرأسية والأفقية. وتحديات سوق العمل كبيرة وعسيرة لأنها هي الأخرى جاءت نتائج تراكم زمني أدى إلى تغيير خطير في النظرة الاجتماعية للعمل، لذلك فإن التغيير يبدأ أولاً بتغيير تلك النظرة الاجتماعية المشوهة للعمل والإنتاج، ثم الإصلاح التنظيمي الذي يجب أن يؤدي إلى ضمان توازن الفرص من حيث الحوافز ومتطلبات الإنتاجية، وأخيراً تحديد احتياجات الاقتصاد السنوية من العمالة الأجنبية بما لا يؤدي إلى فائض كبير وغير مبرر كما هو حاصل الآن. وهذا الإصلاح ونتائجه يعتمد بشكل كبير على توجه السياسات الاقتصادية لقطاعات أخرى بجانب وزار العمل، كوزارة المالية والاقتصاد والتجارة والصناعة والتعليم وغيرها. والإصلاح يتطلب تضافر جهود جميع هذه الجهات في خطة موحدة تهدف في النهاية إلى زيادة كفاءة وعمق سوق العمل بربط أهداف جميع هذه القطاعات الاقتصادية بهذا القطاع والذي يمثل صمام الأمان الأمني والاجتماعي والاقتصادي للوطن.
هناك بالطبع تحديات أخرى حالية ومستقبلية مثل إصلاح القطاع الصحي والأمن المائي والغذائي والنظام التشريعي، ولكن إصلاح هذه القطاعات لن يؤتي ثماره ما دام هناك مخرجات تعليمية غير قادرة على التفاعل بشكل حضاري مع عملية الإصلاح تلك، أو إذا كان هناك مخرجات تعليمية جيدة لا تجد الطريق مفتوحاً لها من خلال قطاع عمل منظم يحفظ الحقوق ويكفل الاستقرار والتقدم للإنسان الجاد. لذلك فإن تجاوز تحديات قطاعي التعليم والعمل سيكفل نجاح كل عملية إصلاح أخرى في جميع المجالات سواءً الصحية أو التشريعية أو غيرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي