أيها الأمن .. من رآك؟!
في فجر تاريخنا الإسلامي، في المرحلة الراشدة وقف رسول كسرى على رأس الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب وهو نائم في ظل شجرة، فقال كلماته المدوية: (عدلت فأمنت فنمت)، شهادة على عدل لا نظير له في ولاية أمر الأمة وقد تكرر هذا النموذج مرة واحدة فقط لمدة عامين ونيف في خلافة عمر بن عبد العزيز ثم أحاط الخوف والشر بالعدل وأهله.
قفز ذلك إلى ذهني وأنا أتابع الأنباء التي تحدثت عن عدد رجال الأمن المرافقين للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في رحلته للمنطقة بما يتجاوز 600 من أنبه رجال الأمن وأشدهم شكيمة وصلابة وتدريبا، مجهزين بما لا يخطر على البال من عدة وعتاد بما فيها السيارة المصفحة الخاصة بالرئيس، علاوة على استنفارات عالية المستوى بآلاف الأفراد وأنواع الخطط والحراسات الأمنية في البلدان التي يزورها.
لا مجال للمقارنة بين عهدي العمرين وعصرنا الراهن لأسباب تتصل أولا بفجر عقيدة لم تلوث عفتها بمآرب الولاة والساسة، وبالاختلاف الكلي لنوعية الحياة الاجتماعية آنذاك وشكل ومكونات ومحدودية الدولة التي كانت مغايرة جملة وتفصيلا سواء من حيث المعتقد أو الأشكال المعقدة للدولة الحديثة.
ليس الرئيس بوش حالة استثنائية وإن كان مثالا صارخا على التناقض بين تشدق عن الحقوق الإنسانية والديمقراطية مقابل أمن مدجج بعيون التقنية وآلاف الحراس وبين ممارسة لقهر الشعوب وغزو واحتلال البلدان في الوقت نفسه.. فقبل بوش عرف العالم قادة لم تكن لهم بشاعة مظالمه، لا تجاه شعوبهم ولا تجاه أمم أخرى وحظوا بتقدير شعوبهم ومحبتهم، بل تطلع الآخرون للعيش في بلدانهم، ومع ذلك ظل أولئك القادة يرغمون على الخضوع لحراسة صارمة دقيقة لم يكن بوسع الواحد منهم الذهاب من مكتبه إلى مكتب مجاور من دونها فما بالك أن يسير في الشارع أو ينام كسيدنا عمر!!
لقد تحول الأمن اليوم إلى مهمة ثقيلة معقدة شاقة جداً علاوة على كونها أصبحت الأشد تكلفة إداريا، ماليا، بشريا وميدانيا بسبب ابتلاء عالمنا الراهن بالإرهاب على مدى العقدين الماضيين، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 وقد تعدى الأمر مسألة وضع الميزانيات الضخمة لمحاربة الإرهاب إلى تغيير جميع إيقاعات الحياة على الأرض وفي الفضاء وفي البحار نحو الأسوأ وطال ذلك فعاليات البشر في الأسفار، الأعمال، المدارس، المساكن، التواصل والاتصال، وأعيدت تحت ضغط مكافحته صياغة القوانين، الأنظمة، العلاقات، الرموز والكلمات. فقد أوقع الإرهاب حياة أهل الأرض قاطبة في دائرة الشك والريبة والاتهام يستوي في ذلك من هو قادم من "السويد" ومن هو قادم من أي بقعة ينهشها العنف والجريمة.
الذين جربوا الأسفار قبل حوادث اختطاف الطائرات، يعرفون كم كان السفر متعة وكم كان العالم فسحة هنيئة جميلة وهم اليوم يترحمون على تلك الاحترازات فالإرهاب بعدها سلب الجميع راحة البال وحرمهم الطمأنينة في الحل والترحال مهما كانت الوجاهة ومهما ملك الواحد من مال أو كان في دولة موفورة الاحتياطات الأمنية .. فمن لم يقلق في داره فلا سبيل لدفع القلق عنه وهو يقف مرتبكا أمام نظرات حرس الحدود أو رجال الجمارك ومن يدققون في أوراقه الثبوتية أو جواز سفره يسألونه من أين وإلى أين هو ذاهب أو حتى وهو يملأ بطاقة الفندق.. أسئلة ما كانت من قبل لتنثر القشعريرة في الأبدان، بيد أنها اليوم تقلب الأمعاء حتى وأنت تعرف أنك أبرأ من ذئب يوسف، فمجرد شبهة في الاسم، شبهة في علاقة، شبهة في لون أو لغة، شبهة مخالفة مرورية أو غلطة في مصرف أو في بطاقة الائتمان أو حتى شبهة مزاج من أراد أن يشتبه بك كفيلة بأن تشويك بنارها أنت أو أي مواطن من هذا العالم وتدفعك ثمنها خوفاً وإهانة أو تعزيرا حتى لو انتهت بعدئذ ببروده (الأسف) الحارقة!
إنها بلوى كونية ومحال أن يعود عصر العمرين، وما من أمل في أن يستعيد العالم رشده، إن كان قد بلغ رشده أصلاً؟ ألم يقل الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة "داج همرشيلد": (إننا في بحثنا عن الأمان نخلق عالماً من عدم الأمان)، هذا بالضبط ما تورطنا فيه أيها الراحل "همرشيلد" فيالها من مفارقة!!